النص :
قال العلّامة ابن خلدون عند حديثه عن طبيعة الخير والشر بين البدو و أهل المدن: و سببه أنّ النّفس ، إذا كانت على الفطرة الأولى ، كانت متهيئة لقبول ما يرد عليها ، و ينطبع فيها من خير و شرّ . قال صلّى الله عليه و سلّم : ” كلّ مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه ، أو ينصّرانه ، أو يمجّسانه ” . و بقدر ما سبق إليها من أحد الخلقين تبعد عن الآخر ، و يصعب عليها اكتسابه . فصاحب الخير ، إذا سبقت إلى نفسه عوائد الخير ، و حصلت له ملكته ، بعد عن الشر ، و صعب عليه طريقه . و كذا صاحب الشر إذا سبقت إليه أيضا عوائده . و أهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملاذّ و عوائد الترف ، و الإقبال على الدّنيا ، و العكوف على شهواتهم منها ، قد تلّونت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق و الشرّ ، و بعدت عليهم طرق الخير و مسالكه ، بقدر ما حصل لهم من ذلك ، حتى لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم . فتجد الكثير منهم يقذعون في أقوال الفحشاء ، في مجالسهم ، و بين كبرائهم ، و أهل محارمهم ، لا يصدّهم عنه وازع الحشمة لما أخذتهم به من عوائد السّوء في التّظاهر بالفواحش ، قولا و عملا . و أهل البدو ، و إن كانوا مقبلين على الدّنيا مثلهم ، إلّا أنه في المقدار الضّروريّ ، لا في التّرف و لا في شيء من أسباب الشهوات و اللّذّات و دواعيها. فعوائدهم في معاملاتهم على نسبتها ، و ما يحصل فيهم من مذاهب السّوء ، و مذمومات الخلق ، بالنسبة إلى أهل الحضر ، أقلّ بكثير . فهم أقرب إلى الفطرة الأولى ، و أبعد عمّا ينطبع في النفس من سوء الملكات ، بكثرة العوائد المذمومة و قبحها ، فيسهل علاجهم عن علاج الحضر و هو ظاهر . و قد يتوضّح فيما بعد، أن الحضارة هي نهاية العمران ، و خروجه إلى الفساد ، و نهاية الشرّ ، و البعد عن الخير . فقد تبيّن أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر ، و الله يحبّ المتّقين . المطلوب : i– البناء الفكري : 1- ما هي القضية التي عالجها الكاتب ابن خلدون في النّص ؟ 2- أثر الفطرة بالغ في سلوك الفرد ، استخرجي العبارة الدالة على ذلك . 3- بيني فضل إيراد الحديث النبوي الشريف على المعنى ، و غرض الكاتب من ذلك . 4- علّل الأديب نسبة الخير في البدو و الشر في أهل المدن ، وضحي ذلك . 5- ما الحكم النهائي الذي انتهت إليه المفاضلة بين البدو و أهل المدن ؟ 6- ما علاقة العبارة الأخيرة بمضمون النّص ؟ 7- ما نمط النص مع الشرح و التمثيل ؟ ii– البناء اللّغوي : 1- أعربي ما تحته خطّ في النّص إعرابا تفصيليا. 2- كيف خدم الأسلوب نمط النّص . 3- استخرجي من النّص محسنا بديعيا و اذكري نوعه و أثره في المعنى . iii– التقويم النقدي : ” فيما كان الشرق العربي آخذا في الانحدار ، و فيما كانت القرائح فيه تدفن الوقت في الزخارف القشورية ، كان المغرب في قمة نضوجه الفكري و التعبيري مع ابن خلدون أمير البيان و إمام البلاغة . فإنه من أقدر من عالج العبارة العربية بمتانة و دقة و سهولة و وضوح . فترى اللغة تنقاد إليه انقيادا عجيبا مهما تدفقت معانيه ، و مهما ابتعدت أغوارها و سما تصوّرها . و ترى عباراته تمتّد و تطول في ترابط وثيق و في تسلسل رائع . إنها عبارة العالم الذي يوضح و يبرهن ليقنع ، و عبارة الأديب الذي يطغى فنّه على كل ما كتب ” . اشرحي هذا القول مع التمثيل من النّص .
تصحيح : i– البناء الفكري : 1- القضية التي عالجها العلامة ابن خلدون في هذا النص تتمثل في : أثر الفطرة في السلوك الإنساني ، و أثر السلوك في دوام الحضارة أو زوالها ، و أثر الحضارة في السلوك . 2- العبارة الدالة على الأثر البالغ للفطرة في سلوك الإنسان : ” و سببه أن النفس إذا كانت على الفطرة الأولى ، كانت متهيئة لقبول ما يرد عليها ، و ينطبع فيها من خير أو شر ” . 3- يتمثل فضل إيراد الحديث النبوي الشريف في توضيح معنى : أثر الفطرة في السلوك الخيّر للإنسان و تأكيده حيث يشهد الرسول صلى الله عليه و سلم أنّ سلوك الخير فطري في الإنسان ، و الشرّ فيه مكتسب بسبب التأثيرات الخارجية و أولها تربية الوالدين ، و غرض الكاتب من إيراد هذا الشاهد هو إقناع القارئ بصحة ما ذهب إليه من رأي . 4- أهل البدو هم الأقرب إلى الفطرة الأولى ، إقبالهم على الدنيا و ملذاتها و شهواتها في قدر، لا تنطبع نفوسهم على سوء الملكات ، و من هنا فهم أقرب إلى الخير من أهل المدن المقبلين على فنون الملاذ الدنيوية ، العاكفين على شهواتهم ، المتلونة نفوسهم بالكثير من الخلق الذميم. 5- الحكم النهائي الذي انتهت إليه المفاضلة بين أهل البدو و الحضر هي أن الحضارة هي نهاية العمران و خروجه إلى الفساد ، و نهاية الشر ، و البعد عن الخير . 6- العبارة الأخيرة من النص هي قول الأديب ” و الله يحبّ المتقين” و لها علاقة وطيدة بمضمون النص ، نجد فيها موقف الكاتب من هذين الخلقين : الخير و الشر ، فهو يدعو إلى إتباع الفطرة السليمة لتأسيس حضارة دائمة و ترك العوائد القبيحة ، مما يورث الميل إلى الشر لأن هذا سيؤدي حتما إلى التدهور الحضاري و من هنا فالعلاقة تعقيبية لتأكيد التوجيه السلوكي التربوي الذي تضمنه النص . 7- نمط النص تفسيري و النمط الخادم له هو الحججي فالعلامة ابن خلدون يقدم إلى القارئ المعرفة و العلم و يشرح فكرة ” أثر الفطرة البالغ في سلوك الإنسان ليفسر ظاهرة الحضارة و علاقتها بالعمران بالاستناد إلى الشواهد و البراهين و من مؤشراته : – استخدام لغة موضوعية بعيدة عن الذاتية . – توظيف مصطلحات تقنية و كلمات ملائمة للمادة المعرفية : النفس ، الفطرة ، خير ، شر ، خلق ، اكتساب ، عوائد ، الحضر ، البدو ، ينطبع ، الملكات ، علاج ، الحضارة ، العمران… تقديم الأدلة : قال الرسول صلى الله عليه و سلم : ” كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه ، أو يمجسانه ” و كذلك الاقتباس من القرآن الكريم ” و الله يحبّ المتقين ” . الوقائع : أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الشر . التمثيل : أهل البدو… فعوائدهم في معاملاتهم على نسبها فهم أقرب إلى الفطرة الأولى ، و أبعد عما ينطبع في النفس من سوء الملكات . أهل الحضر الكثير منهم يقذعون في أقوال الفحشاء في مجالسهم ، و بين كبرائهم و أهل محارمهم ، لا يصدهم عنه وازع الحشمة لما أخذتهم به من عوائد السوء في التظاهر بالفواحش قولا و عملا . الإجابة عن الأسئلة : لماذا …؟ ” …و أهل الحضر لكثرة ما يعانون… قد تلونت “ كيف …؟ فنجد الكثير منهم يقذعون . ii– البناء اللغوي : 1- الإعراب : الفاء : حرف ربط و استئناف . أبوا : مبتدأ مرفوع و علامة رفعه الألف لأنه مثنى و هو مضاف . الهاء : ضمير متصل مبني على الضم في محل جر مضاف إليه . يهوّدان : فعل مضارع مرفوع و علامة رفعه ثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة ، و الألف ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل . الهاء : ضمير متصل مبني على الكسر في محل نصب مفعول به ، و الجملة الفعلية ” يهودانه” في محل رفع خبر المبتدأ . يقذعون : فعل مضارع مرفوع و علامة رفعه ثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة و الواو ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل ، و الجملة الفعلية ” يقذعون ” في محل نصب حال . 2- أسلوب النص خبري ، خال من الإنشاء ، غرضه التقرير و هو الأنسب إلى غرض النص و نمطه التفسيري ، لأن التقرير وجه من أوجه ثبوت الحكم في الخبر ، و لا إقناع و لا تفسير إلا لما ثبت في الذهن . 3- المحسن البديعي : و ما ينطبع فيها من خير و شر (طباق إيجاب) يوضح المعنى ، و يقويه . iii– التقويم النقدي : يذهب صاحب هذه المقولة إلى أن الكاتب و العلامة ابن خلدون قد خالف أدباء عصره في المشرق الذين انغمسوا في عفن الزخرف اللفظي لجفاف قرائحهم ، و سما بالأدب المغربي إلى ذروة المجد الفكري العلمي المقنع ، و المجد الفني الأخاذ ، و من هذا نفهم أن السر في تفرّد منزلة ابن خلدون بين نظراءه هو قدرته على الجمع بين روحي العالم و الأديب في نفس الوقت ، و يمكن تتبع ذلك من خلال هذا النص : 1- الوجه العلمي : * وضوح الفكرة و دقتها و ترتيبها : ” و بقدر ما سبق إليها من أحد الخلقين تبعد عن الآخر و يصعب عليها اكتسابه ، فصاحب الخير إذا سبقت إلى نفسه عوائد الخير ، و حصلت له ملكته ، بعد عن الشر ” . * اللغة العلمية : الفطرة ، الاكتساب ، العوائد ، البدو ، الملكة ، علاج… * طبيعة الموضوع : معالجة قضية التأثير و التأثر بين الإنسان و محيطه الخارجي . * الموضوعية في الطرح . 2- الوجه الأدبي : * عمق الفكرة : أي قدرتها على الغوص في الذات البشرية لاكتشاف أسرارها ، و أسرار الحياة ، ” و أهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملاذ ، و عوائد الترف ، و الإقبال على الدنيا ، و العكوف على شهواتهم منها ، قد تلونت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق و الشر “ ” فتجد الكثير منهم يقذعون في أقوال الفحشاء في مجالسهم ، و بين كبرائهم ، و أهل محارمهم..” * انتقاء الألفاظ الراقية : القادرة على عكس المعنى و التأثير في القارئ : الملاذ ، مقبلين ، يقذعون ، تلونت . * الترادف : الملاذ ، الترف ، الإقبال ، العكوف ، طرق ، مسالك . * التضاد : (الخير/الشر) ، (أهل البدو/أهل الحضر) ، (أقرب/ أبعد) . * الصورة البيانية : أما الصورة البيانية عند الأديب فهي لا تطلب لذاتها ، إنما تعمل على تدقيق المعنى ” قد تلونت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق..” .
|