حالات إستبعاد تطبيق القانون الأجنبي المختص
بحكم النزاع أمام القضاء الجزائري
للأستاذ : دغيش أحمد
خطة البحث
مقــدمـــة
المبحـث الأول: الحالات العامة لاستبعاد تطبيق القانون الأجنبي المختص.
المطلب الأول: حالة الدفع بالنظام العام.
الفرع الأول: مفهوم الدفع بالنظام العام.
الفرع الثاني: علاقة النظام العام بالقوانين ذات التطبيق المباشر.
الفرع الثالث: شروط الدفع بالنظام العام.
الفرع الرابع: آثار الدفع بالنظام العام.
المطلب الثاني: حالة الدفع بالغش نحو القانون.
الفرع الأول: مفهوم الغش نحو القانون وشروطه.
الفرع الثاني: أساس الغش نحو القانون ومجاله.
الفرع الثالث: جزاء الغش نحو القانون.
الفرع الرابع: علاقة الغش نحو القانون بالنظام العام.
المبحـث الثاني: الحالات الخاصة لاستبعاد تطبيق القانون الأجنبي المختص.
المطلب الأول: استبعاد تطبيق قانون أجنبي لدولة غير معترف بسيادتها، و استبعاده لحماية المصلحة الوطنية.
الفرع الأول: استبعاد تطبيق قانون أجنبي لدولة غير معترف بسيادتها.
الفرع الثاني: استبعاد تطبيقه لداعي حماية المصلحة الوطنية.
المطلب الثاني: استبعاد تطبيقه لتعارضه مع معاهدة دولية مصادق عليها، واستبعاده عند الدفع بعدم دستوريته.
الفرع الأول: استبعاد تطبيقه لتعارضه مع معاهدة دولية مصادق عليها
الفرع الثاني: استبعاد تطبيقه عند الدفع بعدم دستوريته
خـــاتمــة
مقدمــة
خول المشرع الجزائري حسب ما قررته قواعد الإسناد في المواد من: 09 إلى 24
من القانون المدني المعدل والمتمم، وما ورد في قانون الإجراءات المدنية
للقضاء الجزائري المختص أن يفصل في النزاعات المشتملة على عنصر أجنبي وهذا
بتطبيق القانون الوطني الجزائري أو تطبيق القانون الأجنبي على تلك
النزاعات، فالأمر هنا يتوقف على حسب ما تشير إليه قواعد الإسناد الواردة في
نصوص القانون المدني المشار إليها أعلاه.
إلا أنه في الحالة التي يتعيّن فيها تطبيق قانون أجنبي معيّن بحكم النزاع
المشتمل على عنصر أجنبي، وبعد رجوع القاضي الجزائري لمحتوى ذلك القانون
يتضح لديه أن قاعدة الإسناد الجزائرية قد أشارت إلى تطبيق قانون أجنبي
تتعارض أحكامه مع المبادئ الجوهرية والأركان الأساسية وتلك الأسس العامة
التي يقوم عليها نظام المجتمع الجزائري، فيكون القانون الأجنبي في هذه
الحالة في وضعية قانونية تتناقض تماما مع المبادئ الأساسية المقدّسة في
القانون الجزائري، مما يستوجب على القاضي الجزائري هنا المثار أمامه هذا
النزاع استبعاد تطبيق ذلك القانون الأجنبي باسم النظام العام والآداب
العامة.
كما قد يتضح لدى قاضي النزاع المشتمل على عنصر أجنبي أن اختصاص قانون أجنبي
معيّن للفصل في النزاع المطروح عليه نشأ عن طريق تحايل أطراف العلاقة
القانونية وتلاعبهم بقاعدة الإسناد الجزائرية، نتيجة قيامهم بإحداث تغيير
في ضوابط الإسناد بنية الإفلات من أحكام القانون المختص أصلاً بحكم هذه
العلاقة القانونية ذات العنصر الأجنبي.
وبناء عليه يتعيّن على القاضي الجزائري أيضاً أن يستبعد تطبيق القانون
الأجنبي المختص بسبب اللجوء للغش من قبل أحد أطراف النزاع، ليُخضع بعدها
العلاقة القانونية محل النزاع للقانون الواجب تطبيقه عليها أصلاً لو لم يقع
ذلك الغش.
ومن هذا المنطلق اتضح لدينا جليا بأن هناك حالتين أساسيتين لاستبعاد تطبيق
القانون الأجنبي المختص بحكم النزاع المعروض أمام القاضي الجزائري عملا
بالنص الجديد للمادة 24 من القانون المدني المعدّل والمتمّم كما سيأتي
بيانه.
إضافة للحالتين السابقتين هناك حالات أخرى اختلف بشأنها الفقه والتشريع
تستدعي في نظرنا استبعاد القانون الأجنبي وعدم تطبيقه رغم اختصاصه بحكم
النزاع أمام القاضي الجزائري، وسوف نعالجها أيضاً في هذا البحث مع إبراز
رأينا الشخصي فيما يتعلق بمدى ضرورة اعتماد هذه الحالات صراحة في التشريع
الجزائري، والعمل بها قضائياً كذلك.
وبناء على ما سبق عرضه عالجنا بحثنا منهجيا وفق الخطة الآتية:
المبحث الأول: الحالات العامة لاستبعاد تطبيق القانون الأجنبي المختص.
استقرّ الفقه والقضاء حديثا لدى معظم الدول
على اعتماد حالتين رئيسيتين يلجأ إليهما القاضي من أجل استبعاد تطبيق
القانون الأجنبي المختص على النزاع المعروض عليه والمشتمل على عنصر أجنبي.
والحالتين المعنيتين هما: الدفع بالنظام العام، والدفع بالغش نحو القانون،
وقد سايرت جل التشريعات الحديثة أيضاً هذا الاتجاه فنصّت في تشريعاتها
بموجب قواعد الإسناد الخاصة بها على ضرورة استبعاد تطبيق القوانين الأجنبية
كلما اصطدمت بدعائم النظام العام لدولة القاضي، وكذا استبعادها أيضاً على
أساس أن اختصاصها كان بطريقة استعمال الغش نحو القانون.
ومن هذه التشريعات نجد التشريع الجزائري بمقتضى نصوص قواعد الإسناد الجديدة
إثر التعديل الأخير للقانون المدني حيث نظمت المادة 24 منه المعدّلة
والمتمّمة هذين الحالتين بقولها:" لا يجوز تطبيق القانون الأجنبي بموجب
النصوص السابقة إذا كان مخالفاً للنظام العام أو الآداب العامة في الجزائر،
أو ثبت له الاختصاص بواسطة الغش نحو القانون.
يطبق القانون الجزائري محل القانون الأجنبي المخالف للنظام العام أو الآداب العامة."
ومن هذا المنطلق قسمنا هذا المبحث إلى مطلبين، نتناول في الأول حالة الدفع
بالنظم العام والآداب العامة، وفي الثاني نتناول حالة الغش نحو القانون
كالتالي:
المطلب الأول: حالة الدفع بالنظام العام
كقاعدة عامة أجاز المشرع الجزائري للقاضي
بتطبيق القوانين الأجنبية على النزاعات المعروضة أمامه للفصل فيها عندما
تكون مشتملة على عنصر أجنبي، وعندما تشير قواعد الإسناد إلى اختصاص قانون
أجنبي معين.
إلا أنه استثناء قد يوقف إعمال القاعدة العامة المشار إليها أعلاه وبصريح
إحدى نصوص قواعد الإسناد ذاتها عملاً بنص المادة 24 من القانون المدني
السالفة الذكر، وهذا بعد أن رجع القاضي المطروح عليه مثل هذه النزاعات
للقانون الأجنبي المشار إليه من قبل قاعدة الإسناد الجزائرية فوجد مضمونه
يتعارض كلية مع الدعائم الأساسية التي بني عليها نظام المجتمع الجزائري.
فيضطر القاضي المعني بالنزاع إلى استبعاد تطبيق ذلك القانون الأجنبي، على
أساس أن المشرع الجزائري عندما أجاز للقاضي العمل بالقاعدة السابقة لم يكن
ذلك بصفة مطلقة بل ربط تطبيقها بشرط ألا يكون مضمونها متعارضا مع المبادئ
التي يقوم عليها المجتمع، و حتى لا يفهم من ذلك بأن المشرع قد فتح الباب
على مصراعيه لتطبيق كل القوانين الأجنبية مهما كان مضمونها
ولتوضيح هذه الحالة أكثر سنقوم بشرحها عبر النقاط التالية:
الفرع الأول: مفهوم الدفع بالنظام العام.
النظام العام فكرة شائعة ومشهورة في علم
القانون وتطبيقاتها متنوعة بين مختلف فروع القانون سواء العام منه أم
الخاص، والمشرع الجزائري كمعظم التشريعات الحديثة لم يعرّف النظام العام
ولم يحدد فكرته بل ترك ذلك للفقه والقضاء، إلا أن هذين الأخيرين قد وجدا
صعوبة في ذلك، محاولين فقط تعريفه عن طريق وضع مفاهيم عامة لتقريبه من
الأذهان نتيجة نسبية فكرة النظام العام سواء من حيث الزمان أو من حيث
المكان، لاختلاف أنظمة الحياة والطبيعة الثقافية والمبادئ الاجتماعية
السائدة بين مختلف المجمعات، الغربية منها أم العربية، وحتى في مجتمع واحد
بين أزمنة مختلفة.
كما أن تطبيق فكرة النظام العام تختلف بين فروع القانون العام والخاص، وبين القانون الداخلي ومجال تنازع القوانين.
رغم الاتحاد في المفهوم العام لهذه الفكرة، على حسب اتجاه غالبية الفقه على
حدّ قولهم: بأن النظام العام هو الأساس السياسي والاجتماعي والاقتصادي
والخلقي الذي يسود المجتمع في وقت من الأوقات بحيث لا يتصور بقاء المجتمع
سليما دون استقرار هذا الأساس، وبحيث ينهار المجتمع بمخالفة المقوّمات التي
تدخل ضمن هذا الأساس، لذا كانت القواعد القانونية المتعلقة بالنظام العام
آمرة لا تجوز مخالفتها
إلا أن الاتفاق حول المفهوم العام بين مجال القانون الداخلي ومجال تنازع
القوانين لا يعني بالضرورة الاتفاق في الهدف بين تلك المجالات. وعليه
اختلفت فكرة النظام العام من حيث غرضها في مجال القانون الداخلي عنه في
مجال القانون الدولي الخاص، بالرغم من أن النظام العام في مجمله يهدف إلى
حماية المصالح الجوهرية للمجتمع، سواء في مجال تنازع القوانين أو مجال
القانون الداخلي، ومع ذلك ففكرة النظام العام في مجال هذا الأخير تُستعمل
كوسيلة لعدم الخروج عن أحكام القواعد الآمرة، أي استبعاد تطبيق اتفاقات
الأشخاص المخالفة لتلك القواعد.
بينما تستعمل هذه الفكرة في مجال تنازع القوانين كوسيلة لاستبعاد تطبيق
القانون الأجنبي المعيّن من قبل قاعدة الإسناد الجزائرية وهذا أمام القاضي
الجزائري، لأن في تطبيقه اعتداء على الأركان الأساسية أو المبادئ الجوهرية
التي بني عليها نظام المجتمع الجزائري.
ومن هنا يتجلّى أكثر الطابع الاستثنائي أو الخاص لهذه الوسيلة، وهي حالة
الدفع بالنظام العام لأنها تهدف إلى استبعاد القانون الأجنبي وتطبيق
القانون الوطني محله بشكل استثنائي، وفي هذا خروج عن الأصل العام أو
القاعدة العامة القاضية بضرورة تطبيق القانون الذي عيّنته قاعدة الإسناد
سواء كان وطنيا أم أجنبيا، انطلاقا من الطبيعة الازدواجية لقواعد الإسناد
الجزائرية.
أما في مجال القانون الداخلي، فإن فكرة النظام العام تفقد هذا الطابع
الاستثنائي، حيث تستعمل هنا للحد من مبدأ سلطان الإرادة دون اعتبار ذلك
خروجا على مبدأ عام، فالمبدأ هنا يقتضي بأن الإرادة حرة في الحدود التي
يسمح بها المشرّع
ومن هذا المنطلق يرى مختلف الباحثين والفقهاء في هذا المجال أن النظام
العام بهذا المفهوم وبهذا الهدف في مجال تنازع القوانين يصبح بمثابة نقطة
تفتيش جمركية لمضامين القوانين الأجنبية ووسيلة أساسية لتقييمها قبل منح
تأشيرة الدخول لها لدولة القاضي.
في حين يصفه بعض الفقهاء نتيجة لدوره المميز تجاه تطبيق القوانين الأجنبية المختصة بصمام الأمن une soupape de sécurité
ويترتب على الطابع الاستثنائي المشار إليه سلفا لفكرة النظام العام في مجال
تنازع القوانين عدم توافق لدور هذه الفكرة بين مجال القانون الداخلي ومجال
القانون الدولي الخاص، حيث استقر الفقه والقضاء بهذا الشأن على قاعدة
مفادها أن مخالفة القانون الأجنبي لأحكام القواعد الآمرة في قانون القاضي
لا يستوجب بالضرورة استبعاد أحكام هذا القانون إعمالاً لقاعدة الدفع
بالنظام العام.
ومثال ذلك القاعدة القانونية المحدّدة لسن الرشد في القانون المدني
الجزائري بتسعة عشر سنة فهي تعتبر من النظام العام في القانون الداخلي، لكن
إذا كان القانون الأجنبي الواجب التطبيق على النزاع المعروض على القاضي
الوطني، يحدد سن الرشد بأكثر من هذا السن أو بأقل فإن هذا الحكم الوارد في
القانون الأجنبي المختص لا يتعارض مع النظام العام في الجزائر، وبالتالي
فلا مانع من تطبيق هذه القاعدة القانونية الواردة في القانون الأجنبي طالما
أشارت قاعدة الإسناد الجزائرية باختصاصه، وتطبيقا للقاعدة السابقة
وانطلاقاً من مضمون نصوص قواعد الإسناد الجزائرية استقر الفقه والقضاء على
إمكانية إخضاع المسائل المتعلقة بالحالة المدنية والأهلية للقانون الأجنبي
إذا ما أشارت باختصاصه قاعدة الإسناد الوطنية، رغم أن هذه المسائل تعتبر من
النظام العام في القانون الداخلي الجزائري لاعتبار أنه لا يجوز للأشخاص
الاتفاق على مخالفتها.
- وينبه الفقهاء في هذا المجال إلى أنه بالرغم من هذا التباين الموجود ما
بين النظام العام الداخلي والنظام العام على مستوى القانون الدولي الخاص،
إلاّ أن ذلك لا يؤدي بنا إلى القول بإمكانية وجود نظام عام مشترك بين
الدول، حيث أن النظام العام يبقى دائما بتميّز بالوطنية مهما كان وصفه دولي
أو داخلي فكلاهما يشكل جزءا من النظام العام الوطني Ordre Public National وإن اختلفت وظيفته بين العلاقات الداخلية والعلاقات الدولية.
كما أن تحديده يبقى دائما من اختصاص القاضي الوطني حيث أن فكرة النظام
العام الدولي لا يمكن تصورها لأنها تفترض وجود سلطة عليا فوق الدول يمكن
لها أن تفرض هذا النظام، إلاّ أن هذا أمر ما يزال بعيد المنال على الأقل في
وقتنا الحاضر.
ونتيجة للتباين الملحوظ بين مجال ودور النظام العام على مستوى القانون
الداخلي والقانون الدولي الخاص، فقد أفرز ذلك وضع تعاريف فقهية خاصة
بالنظام العام في نطاق تنازع القوانين، واختلف الفقه في هذا المجال أيضا
حول إعطاء صيغة موحدة لمفهومه.
فعرفه أحد الباحثين البريطانيين بقوله:" النظام العام هو المبدأ الذي يوجب
استبعاد تطبيق القانون الأجنبي في الأحوال التي يخالف فيها تطبيقه سياسة
القانون الإنجليزي أو قواعد الآداب العامة المرعية في إنجلترا أو يتعارض مع
ضرورة المحافظة على النظم السياسية فيها ".
وعرفه العميد: CAPITANT: بأنه: مجموعة النظم
والقواعد الوثيقة الصلة بمدنية بلد ما، والتي يتعيّن على قضائها تطبيقها
بالأفضلية على أيّ قانون أجنبي، ولو كان مختصّا وفقا لقواعد الإسناد
العادية"
إلاّ أن معظم فقهاء القانون الدولي الخاص يعرفونه بأنه: " تلك الوسيلة التي
يستبعد بها القانون الأجنبي الواجب التطبيق على العلاقة القانونية وإحلال
القانون الوطني محله بسبب اختلافه مع هذا الأخير اختلافاً جوهرياً، بحيث
يتنافى مع المصالح الحيوية للدولة
الفرع الثاني:علاقة النظام العام بالقوانين ذات التطبيق المباشر.
يرى بعض الباحثين الجزائريين أن الفقه في
هذا المجال كثيراً ما اختلط لديه بين القوانين ذات التطبيق المباشر و
النظام العام وسايره القضاء أحياناً.
ولهذا اتجه الفقهاء حديثا إلى التمييز بينهما، حيث جاءت فكرة القوانين ذات
التطبيق المباشر أو الفوري من خلال وضعية بعض القواعد القانونية الوطنية
التي تستدعي حسب المجالات الحيوية أو الإستراتيجية المنظمة لها، أن تطبق
تطبيقا إقليمياً على كل الوطنيين والأجانب المقيمين على إقليم دولة القاضي،
وبالتالي تفلت هذه القواعد من مجال تنازع القوانين، على أساس أنها تتعلق
بمصالح أساسية اقتصادية واجتماعية تتميّز بقدر من الأهمية حيث تحكم هذه
القواعد المتواجدة بمختلف القوانين الوطنية العلاقات القانونية الداخلية أو
تلك المشتملة على عنصر أجنبي على حدّ سواء دون تمييز.
ويطلق عليها أيضاً: بقوانين البوليس والأمن وتشمل عادة الأحكام التنظيمية
الخاصة بعقود العمل والضمان العام ونظم التأمين، وقوانين الصرف وجوانب من
عقود الإيجار والنقل والشركات، وغيرها من المسائل التي تمس تنظيم الدولة
وكيانها الاجتماعي والاقتصادي حتى ولو لم تكن من موضوعات القانون العام.
وبناء عليه يرى جانب من الفقه الحديث بأن هذه القوانين ما هي إلاّ تجسيد
لفكرة النظام العام حسب دوره التقليدي دون الاعتداد بتحليل العلاقة
المطروحة أمام القضاء وردّها إلى إحدى الأفكار المسندة تمهيدا لتطبيق
القانون المختص، حيث يرفض هذا الاتجاه إتباع المنهج الحديث في فض التنازع
بالنسبة لهذه المسائل عن طريق إدراجها في قواعد الإسناد التي تخضع لقانون
القاضي
أما الاتجاه الثاني من الفقه الحديث فيرى بضرورة التمييز بين النظام العام
والقوانين ذات التطبيق المباشر و هذا من خلال النقاط التالية:
1- القوانين ذات التطبيق المباشر تتميز بالكفاية الذاتية، حيث لا تحتاج إلى
فكرة النظام العام، فتسري على العلاقات الداخلية والدولية دون تمييز وهذا
بمقتضى نصوص قانونية وطنية صادرة من المشرع الوطني، في حين أن النظام العام
يشكل سدّاً للذرائع والنواقص التي قد يغفل عنها المشرع بالتنصيص عليها،
ليتدخل النظام العام و يقف كحاجز أو سدّ منيع يمنع تسرّب القوانين الأجنبية
إلى إقليم دولة القاضي، إذا كانت تمس بالمبادئ الأساسية السائدة فيها،
وهذا دون حاجة لنصوص تشريعية آمرة.
2- هناك من الفقهاء من اعتبر القوانين ذات التطبيق المباشر منهجاً مستقلاً
عن مناهج التنازع يتدخل بصفة مستقلة عن قواعد الإسناد، كلما اتضح لدى
القاضي الوطني أي بعض المراكز القانونية تتميّز بقدر من الأهمية الوطنية،
فيطبق القانون الوطني عليها.
أما تدخل النظام العام فهو يفترض دائما العمل وفق منهج قواعد التنازع، ثم
ثبوت الاختصاص التشريعي للقانون الأجنبي، وفي المرحلة الأخيرة يقرر القاضي
الوطني استبعاد هذا القانون باسم النظام العام.
3- إن قوانين البوليس والأمن أو التطبيق الفوري لها صفة مطلقة تقتضي
التطبيق المباشر لقانون القاضي ولا ترد على هذا المبدأ تخفيفات، بينما يجوز
التخفيف من آثار النظام العام وفق ما يطلق عليه بالأثر المخفف للنظام
العام
الفرع الثالث: شروط الدفع بالنظام العام.
وهذه الشروط كالآتي:
1- إشارة قواعد الإسناد الوطنية لاختصاص القانون الأجنبي المخالف للنظام العام:
ويترتب على هذا الشرط أنه لا حاجة لإعمال الدفع بالنظام العام في حالة عدم
اختصاص القانون الأجنبي بموجب قواعد الإسناد في دولة القاضي، وعليه
فيُستغنى عن هذا الاستثناء وهو الدفع بالنظام العام، ويلجأ القاضي الوطني
إلى الوسائل الأخرى لاستبعاده، كأن يثبت الاختصاص لقانون القاضي باعتباره
قانونا إقليميا عل أساس أنه يمثل قانون محل وجود المال، أو بوصفه من قوانين
البوليس والأمن. أو كأن يكون القانون الأجنبي يرفض الاختصاص ويحيل الفصل
في النزاع المشتمل على عنصر أجنبي إلى قانون القاضي، وهذا الأخير يقبل
الإحالة كما هو الحال في التشريع الجزائري أثر التعديل الأخير للقانون
المدني بموجب النص
كما قد يستبعد القانون الأجنبي بمقتضى قواعد الإسناد لسبب آخر دون حاجة
لتدخل النظام العام على أساس عدم اختصاصه أصلاً، فيطبق القاضي الوطني بدله
قانون الموطن المشترك أو الجنسية المشتركة كحل أوَّل، وفي حالة عدم توفر
هذا الحل يلجأ القاضي إلى تطبيق قانون محل إبرام العقد، وهذا في حالة إذا
كان محل النزاع التزامات تعاقدية، وكان القانون الأجنبي المختار من طرف
المتعاقدين لا تربطه أية صلة حقيقية بالمتعاقدين أو بالعقد، فاختيار
المتعاقدين هنا كان غير نزيه، لأن إجازة القانون لهم
هذا الاختيار كان متوقفا على توفر تلك الصلة، وهو ما قررته المادة 18 من القانون المدني الجزائري
2- توافر مقتضى من مقتضيات النظام العام لإعمال الدفع بالنظام العام واستبعاد القانون الأجنبي:
وذلك بأن يكون القانون الأجنبي في مضمونه يتعارض تعارضا كلياً أو جزئيا مع
مضمون القانون الوطني، أو بالأحرى يكون مضمون القانون الأجنبي لا يتفق
تماما مع إحدى مقتضيات النظام العام في دولة القاضي، و للإشارة فإن هذه
المقتضيات تختلف من مجتمع لآخر و من زمن لآخر حتى داخل المجتمع نفسه،
فتعدُّد الزوجات في قواعد الأحوال الشخصية يعتبره مخالفا للنظام العام في
الدول غير الإسلامية، لكنه جائز بالنسبة للبلدان الإسلامية.
والشيوعية في المجتمع الصيني تعد من النظام العام، بينما في المجتمع
الأمريكي تعتبر مخالفة للنظام العام، فالسبب في هذا الاختلاف راجع إلى تنوع
مقتضيات النظام العام من دولة لأخرى.
كما تتغير أيضا مقتضيات النظام العام حسب الزمن و حتى في المجتمع الواحد،
مثلاً: نجد الطلاق كان مخالفا للنظام العام في الدول الغربية و منها:
فرنسا، إيطاليا، إسبانيا، وغيرهم في زمن مضى، ثم أصبح جائزاً حديثاً في
تشريعات هذه الدول إذا توفرت أسباب أو مبررات لذلك.
ونتيجة لصعوبة تحديد مقتضيات النظام العام عبر الأزمنة المتعاقبة، منح للقاضي سلطة تقديرية واسعة لتحديد ما هو مخالف له أو العكس.
وفي هذا السياق شدَّدَ فقهاء القانون على ضرورة عدم إحلال القاضي لآرائه
ومعتقداته وقناعاته الشخصية محل آراء و مذهب الجماعة، و عليه فلا ينبغي
للقاضي المعروض عليه النزاع المشتمل على عنصر أجنبي و المراد استبعاد
القانون الأجنبي المختص من حكم هذا النزاع أن يعتبر مصلحة ما مصلحة خاصة
بالجماعة أو مصلحة خاصة بالأفراد حسب رأيه الشخصي، بل يتعيَّن عليه أن ينظر
إلى الاتجاه الغالب في المجتمع و النظام القانوني الذي يحكمه، حتى و لو
اختلف مع رأيه الشخصي.
وقد استقر الفقه و القضاء لدى مختلف الدول حديثا على أن تطبيق فكرة النظام
العام أو الآداب العامة رغم مرونتها فهي تعتبر عملاً قانونياً و ليست مسألة
واقع، وهذا سواء تعلق الأمر بالعلاقات الداخلية أو على مستوى تنازع
القوانين، حيث يخضع قاضي الموضوع في تقديرها لرقابة المحكمة العليا
باعتبارها السلطة الرسمية المخوَّل لها قانونا مراقبة حسن تطبيق القانون.
ويشتَرِط الفقه والقضاء في هذا المجال أن على القاضي أن يقدِّر توافر
النظام العام من عدمه وقت الفصل في النزاع و ليس وقت نشوء الحق أو المركز
القانوني محل النزاع.
وقد استقر القضاء الفرنسي على الأخذ بهذا الحكم عندما قضت محكمة استئناف
باريس في قراراها الصادر بتاريخ: 02/01/1936 بأن التبنِّي الذي تم في روسيا
بدون التقيد بحدود السن المطلوبة في الأبوين (بلوغهما سن اليأس من
الإنجاب) من طرف النظام العام الفرنسي السائد آنذاك يرتب آثاراً في فرنسا
حتى بعد تعديل هذا السن و تغيير مفهوم النظام العام تبعاً له، ثم تضيف
بأنه من تاريخ هذا التعديل ننظر ما إذا كان التبنِّي يمكن أن يرتب آثاراً
في فرنسا، وغيرها من الأحكام القضائية في فرنسا المماثلة لهذا الحل.
الفرع الرابع:آثار الدفع بالنظام العام:
ميَّز فقهاء القانون بالنسبة لآثار الدفع
بالنظام العام بين أثره فيما يتعلق بإنشاء الحقوق في دولة القاضي وأثره
فيما يخص اكتساب الحقوق في الخارج، و الرغبة في التمسُّك بآثارها في بلد
القاضي وهذا كالتالي:
1- أثر الدفع بالنظام العام بالنسبة لعلاقة يراد إنشاؤها في دولة القاضي:
يترتب على إعمال هذه الحالة لدى الفقه أثران أحدهما سلبي و الآخر إيجابي.
أ- الأثر السلبي للنظام العام:
ويتمثل في استبعاد القانون الأجنبي وفقا لقواعد الإسناد الوطنية مع رفض
الطلب، ودون إحلال قانون القاضي محل القانون الأجنبي نظريًا، لكن عملياً
فنحن نرى بأن القاضي الوطني بمجرد استبعاد القانون الأجنبي المختص و رفض
الطلب فإنه بذلك يكون قد طبَّق قانون دولته و لو بطريق غير مباشر.
وعند البحث في مقدار أحكام القانون الأجنبي المراد استبعادها، نجد أغلب
فقهاء القانون في هذا المجال و بخاصة في فرنسا و مصر يرون بأنه ليس من
الضروري استبعاد أحكام القانون الأجنبي برمَّتِه
وإنما يتعين أن يشمل هذا الأثر فقط استبعاد الجزئية المخالفة لمقتضى
النظام العام في دولة القاضي، مع بقاء اختصاص هذا القانون الأجنبي فيما
عداها من المسائل الأخرى.
فمثلا لو تعلق النزاع المعروض على القاضي الجزائري بعقد يتضمّن شرط الدفع
بالذهب في الجزائر، فإن القاضي هنا وجب عليه استبعاد هذا الشرط وحده
لمخالفته للنظام العام في الجزائر، حيث أن التعامل بالعملة الجزائرية
إجباريًا بين كل المتعاملين الاقتصاديين على مستوى الإقليم الوطني بموجب
قانون النقد والقرض، والنصوص التنظيمية المكملة له. أما الشروط الأخرى
فتبقى خاضعة للقانون الأجنبي طالما لا تخالف النظام العام في الجزائر، أو
كأن يتعلق النزاع المطروح أمام القاضي الجزائري والمشتمل على عنصر أجنبي
بعقد قرض بين أشخاص طبيعيين مقترن بفائدة ربوية فيتعيَّن على القاضي
الجزائري هنا أيضا استبعاد شرط الفائدة وحده لأنه مخالف للنظام العام
الجزائري، مع بقاء شروط عقد القرض الأخرى خاضعة للقانون الأجنبي ما دامت
غير متعارضة مع النظام العام.
إلاّ أن هناك جانب من فقهاء القانون يرى بأن استبعاد القانون الأجنبي
المختص وفقا لقواعد الإسناد الوطني لمخالفته للنظام العام ينبغي أن يكون
كلياً، لأن استبعاد جزء منه فقط دون الأجزاء الأخرى يتنافى مع حكمة قاعدة
الإسناد، إذ يؤدي ذلك إلى مسخ القانون الأجنبي و تطبيقه بشكل يخالف إرادة
المشرع الذي وضعه.
وفي هذا السياق نجد بأن معظم فقهاء القانون يرون بأن الجزء المخالف للنظام
العام في القانون الأجنبي هو الواجب استبعاده دون بقية الأجزاء الأخرى، حتى
يتم الاحتفاظ للقانون الأجنبي و لقاعدة الإسناد التي قررت تطبيقه بأكبر
قدر من الفعالية
إلا أنه في الحالة التي يتعذر فيها على القاضي الجزائري أن يكتفي
بالاستبعاد الجزئي لهذا النص وحده وتطبيق النصوص الأخرى الأجنبية غير
المتعارضة مع النظام العام الجزائري يتعين عليه هنا اللجوء للاستبعاد الكلي
لأحكام القانون الأجنبي وضرورة تطبيق القانون الجزائري بدلا منه، إذ لو
افترضنا أن قانون الجنسية المشتركة لأجنبِيَيْنِ يُقِيمَان في الجزائر يمنع
زواجهما لاختلافهما في اللون فإن هذا المنع لا يحول دون إمكانية إبرام
زواجهما وفقاً للقانون الجزائري، نظراً لتعارض أحكام القانون الأجنبي مع
النظام العام في الجزائر.
فإذا افترضنا أن نزاعا طُرِح بعد ذلك على القاضي الجزائري المختص يتعلق
بآثار هذا الزواج الذي تم وفقاً للقانون الجزائري فعلى القاضي أن يستبعد
تطبيق القانون الأجنبي الذي يحكم آثار الزواج أي قانون جنسية الزوجين
استبعاداً كلياً، لأنه من غير المعقول أن يطبق القاضي هذا القانون على آثار
زواج يُعَدُّ باطلاً وفقاً لأحكامه، وذلك حتى ولو لم يتعارض القانون
الأجنبي بالنسبة لآثار الزواج مع مقتضيات النظام العام الجزائري.
وللإشارة فقد اعتمدت محكمة النقض الفرنسية في بعض أحكامها بمبدأ الاستبعاد
الجزئي لأحكام القانون الأجنبي المخالفة للنظام العام و أبقت على الأجزاء
الأخرى غير المخالفة له.
ومن هذه الأحكام حكمها الصادر بتاريخ 17/11/1964 الذي اعتبر أحكام الشريعة
الإسلامية المنظِّمة للميراث غير مخالفة للنظام العام إلاّ فيما يتعلق
بحرمانها لغير المسلم من حقه في الميراث وبالتالي لا يُستبعد من أحكام هذه
الشريعة إلاّ حكمها المتعلق بحرمان غير المسلم من الميراث، أما ما يتعلق
بعد ذلك من تحديد الأنصبة للورثة فيتم وفقاً لأحكامها
ب- الأثر الإيجابي للنظام العام:
و يتمثل في ثبوت الاختصاص لقانون آخر محل القانون الأجنبي المستبعد، وقد
استقر القضاء و الفقه الفرنسيين على إحلال قانون القاضي محل القانون
الأجنبي المستبعد باسم النظام العام، وهو نفس الحكم الذي اعتمده القضاء
المصري وما ذهب إليه أغلب الفقهاء المصريين كذلك.
والمشرع الجزائري على إثر التعديل الأخير للقانون المدني من خلال النص
الجديد للمادة 24 منه في فقرتها الثانية نص على اعتماد مبدأ الأثر الإيجابي
للنظام العام، و هو ما أكدته هذه الفقرة صراحة بقولها: " يطبق القانون
الجزائري محل القانون الأجنبي المخالف للنظام العام أو الآداب العامة ".
وبناء عليه فإن استبعاد القانون الأجنبي لمخالفته للنظام العام الجزائري
يستلزم بالضرورة تطبيق القانون الجزائري محله تلقائياً بنص القانون.
إلاّ أن نص الفقرة الثانية السابق ذكره لم يشر صراحة إلى مقدار الاستبعاد
الواقع على أحكام القانون الأجنبي، هل يكون جزئيا ينحصر فقط في المسألة
المخالفة للنظام العام، أو أنه يتعين أن يكون استبعاداً كلياً، أي يشمل
القانون الأجنبي برمَّتِه.
- إلاّ أنه حسب وجهة نظرنا وعمَلاً بما استقر عليه غالبية الفقه و القضاء
سواء الفرنسي منه أم المصري، واعتبارا لحكمة المشرع من تشريع حالة الدفع
بالنظام العام لاستبعاد القانون الأجنبي فإننا نرى بأن الأخذ بالاستبعاد
الجزئي إذا كان ممكنا هو الحل الصائب و المناسب لروح التشريع و ما يقتضيه
المنطق القانوني أيضاً.
وبناء عليه يحل القانون الجزائري في الجزء المستبعد من القانون الأجنبي
المخالف للنظام العام الجزائري، بينما في الجزء المتبقي يبقى القانون
الأجنبي المختص هو الواجب التطبيق.
ونشير في هذا المجال إلى أن هناك رأي آخر يسود في ألمانيا مفاده البحث في
القانون الأجنبي المختص عند حالة الاستبعاد الجزئي لأحكام هذا الأخير عن
قاعدة قانونية أخرى تحل محل القاعدة القانونية المستبعدة دون اللجوء إلى
إحلال أحكام قانون القاضي محل الجزء المستبعد، وهذا تماشياً مع فعالية
قاعدة الإسناد الوطنية التي تشير لاختصاص ذلك القانون الأجنبي باعتباره
القانون الملائم في هذه الحالة و الأنسب للتطبيق، و بالتالي وجب مراعاة
باقي أحكامه طالما لا تخالف النظام العام لدولة القاضي. منها الحكم
الشهير الذي قرره القضاء الألماني سنة 1921 المتعلق بتطبيق القانون
السويسري على دين لا يخضع للتقادم حسب هذا القانون، على أساسا أن خضوع
الدين للتقادم يعتبر من النظام العام في ألمانيا، وعليه فلا يعتد بالنص
القانوني السويسري الذي لا يجيز خضوع هذا الدين للتقادم، ولكن طبَّق القضاء
الألماني على موضوع الدعوى حكما قانونيا آخر مقرر في نفس القانون السويسري
دون أن يحل محله نصوص القانون الألماني.
إلاّ أن الفقه الحديث انتقد هذا الحل الأخير و وصفه بأنه حل شاذ يتنافى مع
المبدأ القاضي بتطبيق القانون الأجنبي كما هو، ويعتبر تحريفا صريحا لهذا
القانون مما يتنافى مع أعمال السلطة القضائية أصلاً.
2- أثر الدفع بالنظام العام بالنسبة لحق اكتسب في الخارج وأريد التمسك بآثاره في دولة القاضي:
في حالة اكتساب حق في الخارج ورغب أصحاب هذا الحق التمسك بآثاره في دولة
القاضي، ولم تتعارض تلك الآثار مع النظام العام في دولة القاضي بالرغم من
تعارض نشوء ذلك الحق أو المركز القانوني مع ذلك النظام العام.
فإنه يجوز التمسك بنفاذ ذلك في دولة القاضي ولا يصح إعمال قاعدة الدفع
بالنظام العام على أساس أن نشوء الحق كان معارضا لهذا النظام، بل العبرة
بمدى مخالفة هذه الآثار للنظام العام على أساس أن الحق قد نشأ واكتُسِب في
الخارج.
فالنظام العام هنا لا يتم إعماله بنفس الدرجة في الحالتين رغم أن إعماله
يتعلق بنفس المركز القانوني المراد إنشاؤه، ويعبر الفقه على هذا الأثر
المخفف للنظام العام l’effet atténué de l’ordre public،
لأن النظام العام لا يقبل بنشوء الحق في دولة القاضي ولكن يجيز قبول
الاحتجاج به أو نفاذه في دولة القاضي مادام نشوءه ثم في الخارج، ومثالها
قيام المحاكم الفرنسية بالاعتراف بآثار الطلاق الذي تمّ في الخارج بناء على
أسباب لا يُقرها القانون الفرنسي لتعارضها مع النظام العام هناك.
ونشير إلى أنه عندما تكون تلك الآثار متعارضة مع النظام العام في الجزائر،
فإن القاضي هنا يستبعدها هي الأخرى باسم النظام العام، وبناء على السلطة
التقديرية الممنوحة له، من ذلك ما قضت به المحكمة العليا، في قرار بتاريخ:
23/06/1984 من أجل نقض قرار صادر من مجلس تيزى وزو في: 19/04/1982 بصفة
جزئية، كان قد وافق على حكم الدرجة الأولى الذي منحت بمقتضاه الصيغة
التنفيذية لحكم فرنسي منح تعويضات للمدعى عليها من غير تمييز بين التعويض
المستحق عن أصل الحق المطالب به طبقا لاتفاق الطرفين، ومبلغ الفائدة المتفق
عليها بنسبة معينة، رغم جوازها في القانون الأجنبي المختص، لكنها مخالفة
للنظام العام في الجزائر بنص المادة 453 ق مدني.
لهذا عمدت المحكمة العليا إلى نقض القرار المطعون فيه جزئيا فيما يتعلق
بالحق المدعى اكتسابه طبعا للحكم الأجنبي المتضمن مبلغ الفائدة وحده، على
أساس أن تنفيذ الحكم الأجنبي بهذا الشكل في الجزائر يخالف النظام العام
فيها فيما يتعلق بهذا المسألة
وما تجدر الإشارة إليه في آخر هذا الفرع أن هناك فكرة أحرى لها علاقة بهذا
الحالة الأخيرة وتتمثل في حالة نشوء حق في دولة أجنبية وفقا لنظامها العام
وخلافا لما يقضي به القانون الأجنبي المختص، فهل يمكن الاحتجاج بسريان هذا
الحق في دولة القاضي؟
حيث يرى الفقهاء أن فكرة النظام العام فكرة وطنية وبالتالي فقانون الدولة
الذي يطبق إعمالا لفكرة النظام العام لا يسري أثره إلى إقليم دولة أخرى،
حتى ولو كان مفهوم النظام العام في كلتيهما غير مختلف، إلا أن الراجح فقها
هو التمييز بين حالة كون النظام العام للدولة الأجنبية متطابقا مع النظام
العام في دولة القاضي، والحالة التي لا يكون فيها متطابقا معه.
حيث يمكن التمسك بآثار ذلك الحق المكتسب في دولة أجنبية طالما وافق نظامها
العام رغم تعارضه مع ما يقضي به القانون الأجنبي الآخر المختص، ولنضرب مثلا
افتراضيا، منها إمكانية التمسك بآثار الزواج من طرف زوجين أجنبيين في
فرنسا من خلال زواجهما الذي تم وفقا لمقتضيات النظام العام الإيطالي والتي
هي نفسها في فرنسا، حيث أن القانون المختص أصلا لتنظيم هذا الزواج وهو
قانون جنسية الزوجين الأجنبيين قد أستبعد من تنظيم هذه العلاقة لمخالفته
النظام العام في إيطاليا لأن قانونهما لا يسمح مثلا بالزواج بين مختلفي
اللون أو الديانة.
- أما في حالة عدم تطابق مقتضيات النظام العام لدولة القاضي مع مقتضيات
النظام العام للدولة التي أكتسب فيها ذلك الحق، فإنه لا يجوز هنا التمسك
بآثار ذلك الحق في دولة القاضي والمكتسب في الخارج، ويعبَّر عن الأثر
المشار إليه سلفا بالأثر الانعكاسي للنظام العام
المطلب الثاني: حالة الدفع بالغش نحو القانون.
أشار المشرِّع الجزائري إلى فكرة الدفع
بالغش نحو القانون في المادة: 24 من القانون المدني من خلال فقرتها الأولى
إثر التعديل الأخير له، حيث نصت على أنه: " لا يجوز تطبيق القانون الأجنبي
بموجب النصوص السابقة إذا كان مخالفا للنظام العام والآداب العامة في
الجزائر، أو ثبت له الاختصاص بواسطة الغش نحو القانون."
فالمشرِّع الجزائري نلاحظ من خلال هذا التعديل الجديد أنه حاول مسايرة
الاتجاه الفقهي الحديث وما استقر عليه القضاء في هذا الشأن في مختلف الدول
الحديثة.
وسنقوم بشرح هذه الحالة عبر النقاط التالية:
الفرع الأول:مفهوم الغش نحو القانون و شروطه.
لم يتعرض المشرع الجزائري لتعريف الغش في
هذا المجال ولا حتى القضاء أيضاً، وبالتالي نلجأ إلى اجتهادات الفقه في
تعريفه، ثم نتناول شروط إِعْمال نظرية الدفع بالغش نحو القانون، في الجزء
الثاني من هذا الفرع كما يلي:
1- مفهوم الغش نحو القانون:
إن قاعدة الإسناد هي القاعدة القانونية التي تختص بتعيين القانون الواجب
التطبيق على النزاع المشتمل على عنصر أجنبي، وفي مضمون هذه القاعدة نجدها
تتكون من عناصر ثلاث تفصيلا وهم:
الطائفة المسندة أو الفكرة المسندة، والقانون المسند إليه، وضابط الإسناد
باعتباره وسيلة ربط بها المشرِّع بين الفكرة المسندة و القانون المسند
إليه، فهو أداة أساسية في مجال تنازع القوانين، فعلى إثره يتم ضبط وتحديد
هوية القانون الواجب التطبيق، و بالتالي فهو المحدِّد الرئيسي والمُوَجِّه
الفعلي لمصير القضية المشتملة على عنصر أجنبي، ونتيجة لخطورة دوره في هذا
المجال وما تتميزُ به قواعد الإسناد من حيث احتوائها على ضوابط إسناد
معظمها قابل للتغيير بإرادة الأطراف سواء بحسن نية أم العكس، وعليه فإذا
أفلح الأطراف أو أحدهم بإحداث هذا التغيير سيترتب عنه بالضرورة تغيير
القانون الواجب التطبيق بمعنى: تصبح العلاقة القانونية المشتملة على عنصر
أجنبي خاضعة لقانون آخر غير القانون المختص بحكمها أصلاً لو لم يقع ذلك
التغيير.
فقد يقدم أحد الأطراف مثلاً بتغيير جنسيته باعتبارها تمثل ضابط الإسناد
بالنسبة لفئة الأحوال الشخصية، كأن يُغيِّرها من الجنسية الجزائرية إلى
جنسية فرنسية مثلاً أو يُغيِّر في موطنه، أو في ديانته إذا كان ذلك في بعض
التشريعات يؤدي إلى تغيير القانون الشخصي، وبالتالي يتغير القانون الواجب
التطبيق، كما قد يختار المتعاقدان بموجب رخصة الاختيار المقررة لهما
قانوناً ينظم علاقتهما، إلاّ أنه حقيقة لا تربطهم أيّ صلة بهذا القانون،
بل كان من أجل الإفلات من أحكام القانون الواجب التطبيق لو لم يتم هذا
الاختيار، إلاّ أن المشرِّع الجزائري تدخل إثر التعديل الأخير للقانون
المدني و عدّل في المادة 18 منه معالجاً هذه الحالة بقوله: " يسري على
الالتزامات التعاقدية القانون المختار من المتعاقدين إذا كانت له صلة
حقيقية بالمتعاقدين أو بالعقد ... "
وإضافة لصور التحايل السابقة قد يقدم أطراف العلاقة القانونية على تضمين
علاقتهم عنصراً أجنبياً مصطنعاً للإفلات من أحكام القانون الواجب التطبيق
أصلاً، كأن ينْتقل المتعاقدان إلى دولة أجنبية من أجل إجراء تصرُّف قانوني
على إقليمها بقصد تجنب تطبيق أحكام القانون المحلي، لأن هذا الأخير يتعارض
مع مصالحهم الشخصية.
فيتعين على القاضي الوطني الجزائري المعروض عليه مثل هذه النزاعات المشتملة
على إحدى الصور المشار إليها سابقا أن يستبعد ذلك القانون الأجنبي المقصود
من وراء تغيير ضابط الإسناد جزاءً لسوء نية أطراف العلاقة القانونية، عملا
بنص المادة 24 من القانون المدني في فقرتها الأولى السابق ذكرها، وتما
شيئا مع القاعدة اللاتينية القديمة والتي أصبحت مبدأ فقهيا استقر عليه
الفقه والقضاء حديثا ومفادها:" الغش يبطل كل شيء"
ومن هذا المنطلق فإن القاضي الجزائري في سعيه لإبطال ما ترتب من نتائج
تلاعب أطراف العلاقة وتحايلهم على عناصر قاعدة الإسناد الوطنية وبالتالي
إخضاعهم للقانون الواجب التطبيق حقيقة يؤسِّس ويدعِّم حكمه على قاعدة
اشتهرت حديثا في مجال تنازع القوانين أطلق عليها بقاعدة الدفع بالغش نحو
القانون، رغم أن مبدأ عدم جواز الغش في مجالات القانون الأخرى كان واردا
منذ نشأة القوانين الرومانية واللاتينية انطلاقاً من القاعدة المشار إليها
سابقا.
إلا أن الدفع بالغش في مجال تنازع القوانين لم يثبت العمل به إلاّ بعد
القضية التاريخية المشهورة في القضاء الفرنسي سنة 1876 وهي قضية الأميرة
بوفرمون "princesse de Bouffrement " وهي أول قضية
يطبق فيها القضاء الفرنسي هذه القاعدة ، ثم انتقل الحديث عنها بعد ذلك إلى
الفقه وقررت بعدها في التشريع تدريجيًا رغم انتقاد بعض الفقهاء لهذه
القاعدة.
وبناء على ما سبق بيانه عرف الفقهاء الغش نحو القانون بعد تعاريف تقترب من
بعضها البعض في المعنى العام له المقصود في مجال تنازع القوانين. منها قول
أحدهم " الغش اتخاذ تدبير إرادي بوسائل تؤدي إلى الخلاص من قانون دولة مختص
عادة بحكم علاقة قانونية وإحلال قانون دولة أخرى أكثر تحقيقاً للنتائج
المتوخاة".
ومنهم من عرّفه بأنه: " مناقضة قصد الشارع باتخاذ تدابير إرادية مشروعة ولو عن غير عمد للوصول إلى نتائج غير مشروعة "
إذا من خلال هذه التعاريف وغيرها نجد بأن الغش نحو القانون في مجال القانون
الدولي الخاص يتمثل في لجوء أطراف العلاقة القانونية إلى إحداث تغيير في
ضابط الإسناد باعتباره أحد العناصر الأساسية لقاعدة الإسناد الوطنية، مع
اقترانه بسوء النية لأجل تحقيق نتيجة يترتب عنها إنشاء مركز قانوني متفق مع
حرفية النص ومناقض للغرض الحقيقي له، بغية تلبية رغبات شخصية قي ظل
القانون المراد الخضوع لأحكامه لا يمكن تحقيقها في إطار تطبيق الفانون
الواجب التطبيق أصلا لو لم يقع ذلك التحايل.
فالغش هنا إذاً يتمثل في الانطلاق من استعمال وسيلة مشروعة في ذاتها للوصول إلى غاية غير مشروعة وفقا لروح التشريع وأهدافه.
2- شروط الغش نحو القانون:
المشرع الجزائري لم يتعرض لهذه الشروط في المادة 24 من القانون المدني، رغم
أن بعض الشروط قد تفهم من خلال ألفاظ النص و البعض الآخر يستنتج من خلال
مضمونه.
إلا أن الفقه والقضاء قد اتفق على شروط لكنه اختلف بشأن شروط أخرى، و سنعرضها كالتالي:
أ- الشروط المتفق عليها:
أ-1- تغيير أطراف العلاقة إراديا لضابط الإسناد:
ويطلق عليها الفقه بالركن المادي للغش كأن يقوم الأطراف باصطناع العنصر
الأجنبي في علاقاتهم القانونية لتجنب الخضوع لقانون القاضي الوطني مع أنها
في الأصل علاقة وطنية محضة، أو القيام بالعكس بتغيير العنصر الأجنبي بعناصر
وطنية لتتحول إلى علاقة وطنية، يحكمها القانون الوطني فالغش هنا واقع في
كل الحالات.
أ- 2- الركن المعنوي للغش:
ويصطلح عليه أيضا بتوافر نية الغش نحو القانون ويقصد به نية التحايل
والتهرب من أحكام القانون الواجب التطبيق على العلاقة القانونية. إذ لو
انتفت هذه النية لكان الإجراء الذي قام به الغاش سليما لا سبيل لإبطاله،
إلا أن بعض الفقهاء رأوا بعدم وجوب التقيد بشرط وجود النية، واعتبار الغش
قد وقع لمجرد إجراء عملية تغيير ضابط الإسناد المقترن بملابسات و ظروف
خارجية، و يضربون لذلك مثلا كقيام مواطنين سياح في دولة أجنبية خلال فترة
إقامتهما بها إبرام عقد هبة بينهما في إقليم هذه الدولة الأجنبية دون أن
يكون هناك سبب واضح لإجراء الهبة في هذه الدولة بالذات فيمكن حسب رأيهم
استخلاص عملية الغش نحو قانونهما الوطني للسعي من أجل عدم خضوعهم له
والرغبة في الخضوع لأحكام القانون الأجنبي المتعلقة بعقد الهبة.
إلا أن المتفق عليه بين أغلبية الفقهاء وما استقر عليه القضاء الحديث هو
الأخذ بهذا الشرط بحيث يستخلص الباعث من الغش من طرف قضاة الموضوع
باعتباره من مسائل الواقع، إلا أن تقدير الأثر المترتب على الغش يشكل
مخالفة للقانون يقع تحت رقابة محكمة القانون و في ذلك ضمانا كافية لحماية
حقوق الأفراد.
أما بالنسبة لموقف المشرع الجزائري يمكن أن نستشف مدلول هذين الشرطين من
خلال مقتضى نص المادة 24 من القانون المدني رغم عدم الإشارة إليهما صراحة.
ب – الشروط المختلف فيها بين الفقهاء للدفع بالغش نحو القانون.
وهذه الشروط تتمثل فيما يلي:
ب-1: حصول الغش نحو قانون القاضي:
وهو ما نادى به الفقهاء وعمل به القضاء في فرنسا في بداية الأمر، لكن بعد
سنة 1961 حكم القضاء الفرنسي بإبطال كل العقود المشتملة على الغش نحو
القوانين الأجنبية في 07 مارس 1961.
وتوالت بعدها الأحكام القضائية المقررة لنفس الحكم، و أخيرا خرج المشرع
الجزائري عن صمته فيما يتعلق بهذا الشرط و قرر صراحة من خلال الفقرة الأولى
للمادة 24 من القانون المدني إثر التعديل الأخير لهذا القانون مسايرته
للقضاء الفرنسي الحديث، بأن أجاز إعمال الدفع بالغش نحو القانون بصورة عامة
دون أن يربط جواز الدفع بهذه القاعدة لصالح القانون الجزائري فقط، بل يشمل
مصطلح: »نحو القانون « في
لغة تفسير النصوص القانونية كل القوانين، سواء تعلق الأمر بقانون القاضي أم
كان قانوناً أجنبياً (لأن المطلق يُعمل على إطلاقه حتى يرد ما يقيده)،
(والعام يُحمل على عمومه حتى يرد ما يخصصه).
وهذا بناء على طرق التفسير المعتمدة فقها وعليه استقر الفقه والقضاء الحديث
على هذا الحكم لأن الفكرة الخلقية للغش تتحقق في الحالتين معا، ومن الواجب
على الدول أن تتعاون في هذا الميدان ولا ينبغي للقضاء أن يحمي مرتكبي الغش
مهما كانت نواياهم
ب-2- أن يكون الغش موجها نحو قاعدة آمرة:
قصر بعض الفقهاء استعمال قاعدة الدفع بالغش نحو القانون على حالات التهرب
من القواعد الآمرة دون القواعد المكملة، لأن المكملة لا يتصور التهرب من
أحكامها على أساس أن المشرع أجاز للأفراد الخروج عنها، لكن أغلب الفقهاء لا
يفرقون بين هذه القواعد في خضوعها لقاعدة إعمال الدفع بالغش نحو القانون،
حتى أن الغش في القواعد المكملة يسهل ارتكابه لأن المتعاقدين يملكان مسبقا
رخصة الاتفاق على مخالفتها.
ولهذا لا يجوز للأفراد ممارسة حرية الاختيار المخولة قانونا لهم في مجال
العقود الدولية للتوصل إلى إخضاع العقد لقانون لا يستجيب لطبيعة العلاقة
ولا تربطه بالعقد أية صلة