طرق واساليب التفكير
تشترك العلوم جميعاً في افتراض إن هناك علاقات منظمة بين الظواهر المختلفة وهي تحاول الكشف عن هذه العلاقات والتوصل إلى قوانين أو نظريات ، ذلك للوصول الى للتنبؤ وبالتالي الضبط، ولا يقصد هنا التنبؤ الغيبي إنما المقصود توقع ما قد يحدث إذا ما سارت جميع الظروف سيراً معيناً.
وتتسم العلوم جميعاً بخاصية (التفسير والتنبؤ والضبط) على وفق الأسلوب او المنهج العلمي ، ويتخذ الفكر والرصد الفكري دورة منتظمة ومستمرة يمر خلالها بعناصر ومواقف متتالية، تبدأ بمشكلة أو تساؤل أو موقف غامض يعترض حياة الإنسان ومسيرته اليومية والعلمية والمهنية، وهذا الموقف أو الحالة تحتاج إلى التوقف عندها وتحديد ما هيتها، بغرض وضع الحلول والمعالجات اللازمة لها ، حيث تبدأ هذه الحالة بتحديد أبعاد المشكلة ، ثم ينتقل الإنسان إلى حشد كل خبراته وقدراته لحل تلك المشكلة ، إذ تبدأ مرحلة بلورة أفكار مناسبة لها، ذلك في ضوء المعلومات المتجمعة لديه من مصادره الذاتية او المصادر الأخرى التي يستطيع الحصول عليها ، وهنا تبدأ مرحلة البحث العلمي ، حينما يقوم الباحث بالتوصل إلى معارف جديدة، بشكل استنتاجات ( او اشباه حقائق حول الظاهرة ) بعد ذلك يصل إلى مرحلة جديدة أخرى هي مرحلة التأليف والنشر لتلك المعلومات والحقائق التي توصل إليها عن الظاهرة قيد البحث، ويستخدم عادة وسائل النشر والتأليف المتوفرة والمناسبة لاطلاق معلوماته ونتائجه إلى الآخرين ،كالدوريات والكتب والبحوث المصغرة، والمؤتمرات ، وبذلك تكون النتائج والمعلومات ، والحقا ئق هذه مهيأة وميسرة للباحثين الآخرين ، إلى جانب الكم الكثير من نتائج ومعلومات البحوث الأخرى .
تقوم وظيفة العلم على أساس الوصول إلى( قوانين Laws ) عامة تغطي وتعالج الأحداث والمسائل القائمة، كذلك يُمكّننا العلم من وضع معرفتنا التي توصلنا إليها بشكل موازٍ للأحداث والمسائل المشابهة الأخرى التي تحدث في مكان آخر, ووضع التنبؤات المناسبة والمعتمدة , وبغية تحديد ماهية الطريق العلمي او المنهج العلمي في البحث توجب إعطاء مفاهيم ومحددات للفكر الانساني ومراحله .
مفهوم التفكير :
على الرغم من ان التفكير عملية عقلية يراد بها استخدام القدرات الادراكية والمخية للإنسان ،إلا ان بعض الفلسفيين يضعون مفاهيم تتضارب أحيانا مع أخرى و تقترب من المعنى العام والشامل، كالمنطق ،والعقل ،والعلم ،والإدراك والخبرة.....الخ.
وهذا راجع لعدم استقرار المفاهيم * والاتفاق عليها بين المختصين في علوم مختلفة ، والتفكير بوصفه نشاطاً إنسانياً راقياً في سلسلة النشاط الإنساني ،فانه بذلك يعد اثمن تفاعل يبديه الإنسان نحو الطبيعة ومشكلاتها وظواهرها العلمية والاجتماعية والإنسانية.
وهنا تكون المشكلات ( Problems ) كحوافز ومنبهات لعملية التفكير يتبعها ظهور تصور أو حل مقترح في الذهن ،اذ يأخذ العقل في التمعن في المشكلة ،وبالتالي الوصول إلى فكرة أو حكم ابتدائي يسير بموجبه وفق قواعد معينة لحلها، وعلى هذا يكون (التفكير Thinking ) نشاطاً عقلياً يمارسه الفرد حين الشعور بحيرة معينة،أو غموض ،أو شك، أو تردد،أو تساؤل..الخ أي عند شعوره بمشكلة تتطلب حكماً أو تصرفاً في حدود الظروف المحيطة به،وضمن حدود العلاقات المرتبطة بالمشكلة ،وفي ضوء المعطيات التي يمكن ان توجد في حالتها الواقعية .
اساليب التفكير الانساني
لقد مارس الإنسان منذ عهود بعيدة جداً ( التفكير) بوصفه أداة أدرا كية لحل مشكلاته ،لكن هذه الممارسة كانت متأرجحة بين الخرافة والوهم والعلم ،ومن هنا كان لازماً عليه ان يغيّر طريقة تفكيره باتجاه النتائج وتطور طرق الاستطلاع والكشف والتعليم والإفادة من التجربة ،وعليه كانت أساليب التفكير تسير على وفق الآتي :
( أ )- التفكير بطريقة المحاولة والخطأ
وتتمثل في تخبط الفرد في مواجهة المشكلات من خلال محاولاته التجريبية المجردة من حلول متوقعة ،أو مسببات تقود إلى الحل ،وهذا النوع من التفكير يستند في الأساس إلى ما يمكن ان ينتج عنه نشاط معين ،تلقائي غير مدروس أو مستند إلى رؤية أو فرض علمي .
فغالباً ما يحاول الإنسان عند مواجهته مشكلة- أو لتفسير ظاهرة معينه– ان يعتمد على خبرته الشخصية ومعرفته المختزنة في حلها ،فالإنسان القديم وهو يبحث عن طعامه ،ربما يتذكر ان أنواعاً معينة من الثمار قد أمرضته، وان الحيوانات متوافرة بكثرة في بعض المرتفعات الخضراء ،وان الحبوب تنضج في وقت معين من فصول السنة ،…وهكذا راح يعتمد على محاولته اليائسة من التفكير المنظم الذي يحمل الغايات والتعليلات لحدوث الظواهر.
فبعد انتهاء عصر الجليد (البلايستوسين) وتلاشي حضارات العصر الحجري القديم الأعلى… بدأ الناس في هذا العصر يخرجون من الكهوف إلى مواقع مكشوفة ليسكنوا الخيام والأكواخ ..فهذه التجمعات فضلها على الحضارة الإنسانية كبير ،فبدأ حينها الإنسان محاولة مواجهة الطبيعة وموجوداتها(( فقد بدأ الإنسان لاول مرة محاولته لاستئناس الحيوان ،وربما لزراعة النبات)) كما يرى ذلك د.تقي الدباغ، وهذه مفتاح مواجهة الإنسان للطبيعة من خلال اكتشافه عن طريق الصدفة إمكانية العيش مع الحيوان وزراعة البذور في مناطق رطبة.
ب-التفكير بعقول الآخرين(التسلطّي)
هو نوع من التفكير يخضع بموجبه الفرد للآخرين في تفكيره من خلال خضوعه لسلطة مادية او علمية او اجتماعية حيث تتسلط عليه أفكار غيره وتسوقه الى التفكير بطريقة غير منظمة، وقد يكون الانسياق مبني على عادات وتقاليد موروثة، أو محببةأو بدوافع التقرب أو الخوف أو الضعف أو المنفعة ،وهذا ناتج عن عدم الأيمان بمعرفة الفرد ،اذ يرى ان الآخر يسمو بشيء من العظمة والحكمة المتناهية.
وقد نبه فرنسيس بيكون* إلى خطورة هذه النظرة من خلال إعجاب الناس في
كتابات الأقدمين رغم ما يعتورها في أحيان كثيرة من نواقص بالقول (( انهم يقدمون إلينا ويعرضونها علينا بطريقة من شانها ان تضفي عليها قناعاً نتوهم معه أنها كاملة..تامة)) وهكذا كان بيكون يتحاشى الوقوع في الخطأ الذي وقع فيه القدماء من نتائجهم على انها (كاملة ،نهائية ،تامة ) فقد نادى بان على الباحث ان يعرض أراءه على إنها مجرد محاولات (Attempts) تناسباً مع طريقة موضوع البحث ومرحلته الزمنية.
وأسلوب السلطة أسلوب سهل ومريح في حل المشكلات،لكن شيوعه يجعل المعرفة تصاب بالوهن وعدم التراكم باتجاه المعرفة العلمية ،فان العصور التي كانت فيها السلطة المرجع والمقود الأساس في حل المشكلات ،كانت شؤون العلم والفكر فيها قد اتسمت بالتخلف وخلت من كل إبداع ،كما شاعت سلطة ارسطوالثقافية والفلسفية في العصور الوسطى الأوربية،أي اكثر من آلف وخمسمائة سنة. وقد اخذت سلطة الفلاسفة - ارسطو مثلاً - تتخذ شكل الخضوع والتقديس بشخصه وما جاء به،وهكذا أوجد بيكون ورينيه ديكارت من خلال فلسفتهما بنقد الطريقة الارسطية في النظرة إلى الكون والظواهر التي كانت سائدة في العصور الوسطى كما اخذ غاليلو آراء ارسطو واحداً تلو الآخر وتوصل بمنهجه العلمي الدقيق إلى بطلانها، وعلى ذلك يرتكز هذا النمط من التفكير (التسلطي ) بالدعامات آلاتية:
(1) القدِم Legacy
غالباً ما تحمل الآراء الموروثة القديمة قيماً خاصة ومؤثرة بالنسبة للمعاصرين، وتحمل نوعاً من التقديس والتعظيم غير مبرر علمياً ، وترتكز هذه النظرة إلى ان المعرفة كلها والحكمة كلها حكراً وميداناً على القدماء ولهم،بالاعتماد الضمني على التأريخ ،والذي تتم رؤيته في أحيان كثيرة على انه اخصب و أثرى واهم من حياتنا المعاصرة ،وهذه علمياً نظرة غير صائبة ولها دلالة على الكسل المعرفي والاتكاء على الماضي .
(2)- الانتشار Proliferation
اذا كانت صفة القدم تحمل امتداداً طوليأً في الزمان ،فان صفة انتشار الاعتقادات أو الأحكام أو الحلول الجاهزة أو الظواهر غير المؤكدة تعبر عن الامتداد العرضي الشائع بين الناس ،فالرأي ،أو الحل (الجاهز ) يكتسب سلطة اكبر(غير منظورة)كلما كان شائعا في ثنايا التكوين الاجتماعي ،وغالباً ما يجابه بالقول آلاتي( هل ستكون أنت أحكم واعلم وأفهم من كل هؤلاء الناس)( أو اعمل كما يفعل الآخرون)،وهكذا….
وتشير الدراسات الاتصالية والاجتماعية-مثلا- إلى ان مفهوم ( الإشاعة) يرتكز بشكل كبير على أخبار أو اعتقادات غير يقينية لكنها في ذات الوقت تكتسب أهمية كبيرة وسريعة على التبني ،وغالباً ما تتسق هذه الاعتقادات مع الظرف النفسي والسياسي والاجتماعي للوسط الاجتماعي ،بحيث يشكل الإجماع سلطة قهرية على الاعتقاد الفردي وقوة ضغط غير شعورية بغض النظر عن مستوى الحقيقة والموضوعية.
(3)- الشهرة Fame
يرتبط هذا المتغير بالإذعان إلى شهرة شخص معين وبالتالي يسير إلى اعتقاداته أو طروحاته بوصفه يمتلك الحكمة والدراية ،التي أدت إلى ذيوعه وشهرته بين الناس ،وغالباً ما تكون إلصاق الشهرة المعرفية بناءً على جانب أو موقف معين ،وان مضمونها يحمل من البساطة أو التشويق أو الأهمية النفسية-بغض النظر – عن مداها المعرفي العلمي ،وامكانية التحقق منها وأخذها على انها علمية ،لكن تأثيرها يمتد ليصبح سمة غالبة أو سائدة لما سيقوله أو يكتبه في أذهان الناس .
(4) الرغبة والتمني Desire
يميل الناس إلى تصديق ما يرغبون فيه أو ما يتمنونه ان يحدث وعلى العكس فانهم يعارضون كل ما يتعارض مع تمنياتهم،وانهم بذلك لا يفتحون على أنفسهم عالماً جديداً من التفكير والتالف مع الظواهر الجديدة ،رغبة في بقاء الماضي الذي يرتبط براحة فكرية وكسل في التفكير والتوقد الذهني. وقد أشارت نظريات الاتصال الاجتماعي إلى هذا المنحى ،ليس فقط في الجانب المعرفي ،إنما بيسير ذلك في مجمل ما يتلقاه الفرد من معلومات على وفق ميوله وثقافته واتجاهاته (مرجعياته) وتعرف هذه المترافقات (بالعمليات الانتقائية Processes Selective ) وهي ثلاث : التعرض (التلقي ) الانتقائي ،والإدراك الانتقائي ،والتذكر الانتقائي. وهذه مرتبطة إلى حد كبير بمتغيرات شديدة التعقيد ،على اساسها تتم عملية توظيف المعلومات والآراء ،إلى ما يحمله الفرد من مخزونات معرفية ورغبات وميول وبالتالي يقوم بتبني ما يتوافق او مايتعارض معها.
(ج)-التفكير الخرافي Mythical Thinking
هو ذلك النمط من التفكير الذي يخضع بموجبه الفرد إلى أفكار وتفسيرات وحلول وهمية illusory في تفسير الظواهر ،ويقترب التفكير الخرافي من التفكير الأسطوري (الميثولوجي) الا ان الفارق بين التفكير ين هو ان التفكير الأسطوري غالباً ما
يكون تفسيراً (متكاملاً) للعالم ،أو لمجموعة متعددة مترابطة من الظواهر في حين ان التفكير الخرافي غالباً ما يصدر جزئياً (Parts ) حول ظاهرة أو حادثة أو واقعة معينة .
ففي العصور البدائية والقديمة كانت الأسطورة تمثل نظاماً كاملاً في النظرة إلى الكون والإنسان ،غير انه كان يتسم بالاتساق والتماسك الداخلي ،أما( الخرافات) فتظهر منسابة بالتفاصيل وجزئياتها ،ويتميز التفكير الخرافي بالمؤشرات آلاتية:
1- الابتعاد عن الموضوعية في وصف الظواهر ومسبباتها.
2- شيوعه للعديد من الناس ،ويرتبط عكسياً مع ارتفاع مستوى التعليم.
3-الافتقار إلى السببية (Causality) والعلمية ،والاستناد إلى غيبية في تفسير الظواهر كالحظ ،والسحر ،والقدر دون اللجوء إلى الملاحظة المنظمة أوالدراسة التجريبية.
ويرى الدكتور فؤاد زكريا في سياق التفكير الخرافي ان (( الشعور بالعجز هو العامل الأساس لظهور الخرافة واستمرارها ،وهذا الشعور يتخذ أشكالا تختلف باختلاف البيئة والعصر،ولكن بنتيجة دائماً واحدة ،هي ان يلجا الإنسان في تعليله للأحداث إلى قوى لا عقلية تساعده في التخلص من المشكلات التي يواجهها تخلصاً وهمياً ،بدلاً من ان تساعده في حلها )) ، وعلى ما تقدم يمكن ان نستنتج ان العلم شيئاً فشيئا استطاع ان يحقق نصراً ماثلاً وظاهراً للعامة، على عقم الحل الخرافي للمشكلات ،من خلال تقديمه تجريبياً لمسببات الظواهر وامكانية التنبؤ بحدوثها ،وكان الكثير من الظاهرات التي استحدثت تفسيراتها الموروثة عن الماضي السحيق قد أعيد النظر إليها على وفق التفكير العلمي المقترن بالتفسير والتنبؤ والتحكم(السيطرة).
( د )- التفكير العلمي
ويتمثل في إخضاع النشاط العلمي لضوابط محددة ومتسقة ،مشهود بكفاءتها وسلامتها ،وان ظهور العلوم جميعاً بصيغتها ووظيفتها الإنسانية لم تظهر معرّفة بهذا الكم والكيفية ، رغم تباين فترات ظهورها الا في مرحلة متأخرة من تاريخ التفكير البشري ، ورغم المحاولات المتعددة والنشطة لفهم ما يدور حول الإنسان من ظاهرات وتساؤلات ،الا ان اغلبها كانت في حدود الإجابة والتفسير عليها ،أسيرة التصورات الذهنية والاجتهادات الذاتية والتحليلات والتفسيرات الغيبية الجاهزة منها والسلطوية ، ويعّد تفسير تلك الظاهرات والمواقف تفسيراً علمياً يقوم على الربط (السببي) أي إيجاد العلل والظواهر وارتباطها ببعضها بوصفها عناصر للمشكلة أو الظاهرة ربطاً موضوعياً واقعياً ودقيقاً باتباع طرق منظمة وممكنة تسمى (المنهج Method )هو بدء ظهور العلم ضمن المعرفة الإنسانية الهائلة والموغلة في القدم. وعليه فان ما ظهر من معارف وتفسيرات واوصاف للعلوم المختلفة ،الطب ،الفلك ،الاجتماع، الاقتصاد، الفن ،الاعلام، الكيمياء ...وغيرها كثير ،لم تصبح علوماً ( Sciences ) بمعنى الكلمة رغم اهتمام الإنسان بتفصيلاتها منذ وقت مبكر ،إلا حينما استندت إلى المنهج العلمي في التفكير والبحث والتجريب المتحقق من نتائجه ،ذلك ان لاعلم دون منهج، وعلى هذا فان تراكم المعرفة الإنسانية يشمل جملة من الأفكار والمعتقدات والأحكام والمعاني للظواهر الكونية والاجتماعية تضم كثير منها معرفة غير علمية وأخرى علمية ،وقوام التفريق بين الأمرين ،أو معيار التصنيف يتم من خلال أساليب الوصول إلى هذه المعرفة والطرق التي سارت بموجبها. لذا يعد العلم ( Science ) جزءً محدوداً من مجموع المعارف الإنسانية في الوقت الحاضر ، وانه من الممكن ان يتسع ليشمل خيراً اكبر ما دام بالإمكان إخضاع جوانب متعددة من هذه المعرفة إلى ( الضبط Control ) وإمكانية المراجعة على وفق جملة قواعد منظمة والتي نسميها في هذا الإطا (قواعد أو أساليب أو طرق أو أصول البحث العلمي ).