علوم التربية ميدان حديث النشأة (نصف القرن الاخير) لكنه أثار قبل ذلك وما زال يثير الى الآن, العديد من الاسئلة المتعلقة بالتسمية, التعددية, العلمية, التصنيف, العلاقات القائمة بينها كعلوم تربوية, وحدود المقاربات التي تعتمدها في معالجة موضوعها.. والسبب هو انها علوم متداخلة, متعاونة, ومنفتحة على ما يستجد من علوم انسانية او علوم دقيقة اخرى, تختلف عنها موضوعا, ومنهجا هذه الاسئلة تستمد مشروعيتها من كونها تعطينا صورة عن ماهية علوم التربية - هل التربية علم؟ - علم التربية ام علوم التربية؟ - ما مبرر تعددية علوم التربية؟ - وما مدى علميتها؟ 1)- هل التربية علم؟ التربية منذ العصور الغابرة ضلت موضوعا تحكمه تأملات الفلسفة, حاجيات المجتمع, ومرجعياته الفكرية الدينية, الخلقية, والاجتماعية تبلورت هذه التربية في ظل التطور الذي عرفته العلوم الانسانية.. خاصة منها علم النفس, علم الاجتماع الأنتربولوجيا,.. وذلك عبر سيرورة الانتقال من المعنى العام للتربية, الذي كان ينحصر في التأثير الممارس من طرف الراشد على الطفل والمراهق بتقديم الرعاية النفسية, الجسمية , العقلية , والاجتماعية له, تبعا لأهداف وغايات محددة سلفا.. مرورا باستعمال البيداغوجيا التي هي, على حد تعريف "دوركهايم" نظرية عملية تقوم على الربط بين التأمل النظري في الفعل التربوي والممارسة التربوية كعلم ... وخلال تطور العلوم الانسانية والدقيقة, سيتم الكشف عن محدودية البيداغوجيا كمفهوم يقوم على القيادة والتوجيه, مما سيؤدي إلى تجاوزه نحو استثمار نتائج ومناهج علم النفس في ما يعرف ب"السيكوبيداغوجيا", التي اعتبرها الباحثون علما للتربية بصيغة المفرد 2)- علم التربية أم علوم التربية؟ يعود هذا الطرح إلى الثلث الاخير من القرن التاسع عشر, بعد ظهور كتاب :"التربية كعلم" ل"ألكسندر بين" حيث كان الاعتقاد السائد آنذاك حول علم النفس بأنه العلم الوحيد المتميز بالعلمية والقادر على أن يجعل من التربية علما قائما بذاته.. غير أن عالم الاجتماع الفرنسي "دوركهايم" اعتبر منذ بداية القرن العشرين علم التربية فرعا من علم الاجتماع ولا يمكن للأول أن يحقق استقلاليته عن الثاني, لأن تطور أي نظام تربوي يكون رهينا بالتطور الذي يطرأ على حركة المجتمع ككل, انطلاقا من العلاقة التلازمية القائمة بينهما.. بهذا, لم يعد الأمر منحصرا في تطبيق مناهج ونتائج علم النفس فقط على التربية, بل علم الاجتماع أيضا, بالإضافة إلى محاولات أخرى لعلماء البيولوجيا, الفيزيولوجيا, والتاريخ.. مما أثار نقاشا حادا بين الباحثين حول استعمال علم التربية بصيغة المفرد أم الجمع, انطلاقا من كون موضوع التربية متعدد الأبعاد, يتكامل فيه ما هو نفسي مع ما هو اجتماعي فلسفي ,تاريخي, فيزيولوجي, وبيولوجي... وعلى أساس تعددية العلوم التي يمكن أن تشكل التربية موضوعا لها, وكذا رغبة الباحثين في تحقيق العلمية لهذا الموضوع, توزعوا الى فريقين مختلفين: أ)- فريق يقر بأن علوم التربية لا تشكل استمرارية لعلم التربية, أي أن هناك قطيعة بينهما, لأنهم كانوا يهدفون إلى بناء علم التربية كمعرفة علمية مستقلة, لها هويتها ووحدتها الخاصة.. ب)- وفريق آخر, يعتبر أن أي مقاربة لموضوع علم التربية ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار تعقيده كموضوع وتعدد أبعاده وتغيره المستمر, مما يجعل منها مقاربة تتسع لأكثر من علم واحد.. وبالتالي, فهذا يفرض الاعتراف بوجود استمرارية بين علم التربية وعلوم التربية.. اقتضت ضرورة احتواء الأبعاد المختلفة والمتنوعة للظاهرة التربوية, تجاوز الصيغة الإفرادية للتربية إلى ما أصبح يعرف اليوم بعلوم التربية, وهي صيغة بالجمع ارتبط أول استخدام رسمي لها بتأسيس معهد علوم التربية بجنيف في أكتوبر (1912) 3)- ما مبرر تعددية علوم التربية؟ يرتكز استخدام علوم التربية بصيغة الجمع على رؤية ابستمولوجية = موضوع هذه العلوم واحد هو التربية لكن مقارباته مختلفة تبعا لتعدد وتنوع العلوم الانسانية والبحثة, التي تستفيد التربية من نتائجها العلمية إن هذه الرؤية الابستمولوجية تحيلنا إلى مفهوم هام في علوم التربية هو التعددية, الذي طرح في سبعينات القرن الماضي من طرف عدد من الباحثين, نذكر منهم الباحث كاي أفانزيني الذي أثار السؤال التالي: "عندما نعرف علما ما من خلال موضوع ومنهج, فهل يفهم بالنسبة لعلوم التربية أن موضوعها مستمد من علوم مختلفة, وبواسطة مناهج متعددة؟ إن سؤالا كهذا يبرز خصوصية تداخل المعارف وتعددها في علوم التربية من جهة, إلى جانب اشتراكها في دراسة موضوع موحد هو التربية من جهة ثانية.. لكن باستخدام كل علم منها لأدواته وأساليبه المنهجية الخاصة؛ كما يكشف عن أن تعددية المقاربات العلمية المعتمدة ناتجة عن اختلاف المصادر(علوم انسانية, علوم دقيقة, حقول معرفية كالفلسفة والتخطيط الخ.. وبهذا المعنى, فالتعددية هي أحد أهم عوامل الإغناء في علوم التربية. 4)- ما مدى علمية علوم التربية؟ أن تتصف معرفة ما بالعلمية معناه أن تكون خاضعة لمقاييس العلم الصارمة على مستويات الموضوع, المنهج, والجهاز المفاهيمي؛ وأن تتحقق في هذه المعرفة معايير المصداقية والشرعية, ودقة التفسير العلمي المتوصل اليه عبر تطبيق خطوات الملاحظة, وضع الفرضيات, التجربة, والاستنتاج.. إذا كان هذا ينطبق على العلوم الدقيقة, لأن موضوعها هو الأفعال أو الوقائع وليس القيم والغايات, فما مدى علمية علوم التربية؟ لقد أثير هذا السؤال الابستمولوجي منذ القديم مع عالم الاجتماع الفرنسي "دوركهايم" في كتابه: البيداغوجيا وعلم الاجتماع (ص: 39), حين نفى أن تكون البيداغوجيا علما للتربية.. وأكد على امكانية قيام هذا الاخير, أي بناء معرفة علمية تتخذ من التربية موضوعا لها, عن طريق البحث في أسباب الظاهرة التربوية المدروسة واخضاعها للمقاييس العلمية ومنذ بداية الستينات من القرن الماضي, تشكك الباحثون في مدى الشرعية العلمية لعلوم التربية , نظرا لما تتميز به من تعددية وتباين على مستوى المناهج والأساليب والمفاهيم, التي تستمدها من غيرها من العلوم الانسانية والبحثة, خاصة علم النفس,علم الاجتماع, البيولوجيا, الفلسفة, والتاريخ من جهة؛ ونظرا لما يطبع موضوع التربية بصفة عامة, من صعوبة علمية نابعة من كونها ميدانا للقيم والغايات من جهة ثانية... وترجع أسباب التشكك في مدى علمية علوم التربية بشكل عام, إلى عاملين أساسيين اثنين, هما: أ)- يصعب التحكم في التربية كممارسة عملية انطلاقا من علوم التربية, لأن التربية فن أو صناعة تكونت من مجموع التجارب الإنسانية المكتسبة, ومن المهارات الموروثة.. وبالتالي, فهي ليست تقنية بالمعنى العلمي الدقيق للكلمة, بل هي ممارسة تستهدف تحقيق غايات وقيم.. ب)- يصعب اعطاء وصف وتفسير علمي دقيق لموضوع علوم التربية بواسطة أدوات وأساليب العلوم البحثة, لأن هذا الموضوع متعلق بالقيم والغايات وليس عبارة عن أفعال, يستقل فيها موضوع المعرفة عن الذات العارفة مثلا في - البيولوجيا, فلكي يتوصل علم البيولوجيا إلى "حقيقة الكائنات الحية", درس الخلية كموضوع معزول عن الذات العارفة. - علم الكيمياء توصل إلى "حقيقة المادة" بعزل موضوع الذرة - علم الفيزياء توصل إلى "قوانين الحركة" باعتبار الأجسام المتحركة موضوعا له.. وبهذا المعنى, يتبين مدى الاختلاف بين التربية كفرع من العلوم الانسانية, والعلوم الدقيقة على مستوى التحكم العملي في الموضوع, الوسيلة, المنهج, والجهاز المفاهيمي .. ورغم هذا, كانت علوم: النفس, الاجتماع , البيولوجيا, والانتربولوجيا من العلوم الأولى التي أفادت ميدان التربية على مستوى تطبيق مراحل المنهج العلمي, لكن بما يتناسب مع التربية كعلم من العلوم الانسانية إلا أن أهم الصعوبات التي ظلت قائمة هي عدم التمكن من العزل الكلي (التام) للإنسان كموضوع عن الذات العارفة (تجربة الباحث وشخصيته), كما تمكنت من ذلك مختلف العلوم البحثة.. وعدم قدرة علماء التربية على التحكم في الظاهرة التربوية المتشعبة الأبعاد, التي توجب اعتماد مقاربات متنوعة ومختلفة لتشخيصها وتحليلها, ثم تفسيرها تبعا لتنوع واختلاف أبعاد الانسان, الذي هو موضوعها وهدفها.. وبالتالي, فإن التربية, أثناء تطبيقها للقواعد العلمية الأربعة, لا ترقى إلى درجة الصرامة والدقة والضبط, التي تجعلها علما بمعنى العلوم البحثة, مما يميز مناهجها بالطابع العلمي المتغير والطامح دوما الى مزيد من الموضوعية العلمية وهذا ما يدفع التربية الى الانفتاح على علوم مختلفة حديثة, بهدف تمتين وتطوير علاقات التكامل معها سعيا وراء تحقيق العقلنة والعلمية للميدان التربوي ككل المراجع والمصادر 1- د.محمد الدريج (1990),"التدريس الهادف" الطبعة الاولى, مطبعة النجاح الجديدة ,الدارالبيضاء,ص:11 2)- Article de Jean Houssaye :"Approche des sciences de leducation: Histoire et enjeu" ) Universite de Rouen;France 3)- Bernard Charlot(2001): " les sciences de l education en France"Chapitre extre du livre :"le pari des sciences de l education"Bruxelles-coll:Raisons educatives;edit:Boeck Universite/pp: 147 4)- Gilbert Tsafak(2003):"Comprendre les sciences de l education "edit Harmatan p:61. Dr;Alain kerlan.dans son article:"Epistemologie des sciences de l education : -(5-6 Reflexions sur la scientificite des sciences de l education"Universite lumiere.Lyon2
|