عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهراً أكثر من شعبان، فإنه كان يصوم شعبان كله) متفق عليه.
ومعنى قولها: "كله" أي أكثرهُ، كما جاء عنها في رواية النسائي: ( لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لشهرٍ أكثر صياماً من شعبان، كان يصومهُ، أو عامتهُ ) صحيح سنن النسائي 2218).
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: ( ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين ،إلا شعبان ورمضان ) صحيح سنن الترمذي (588) .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا بقي نصفٌ من شعبان فلا تصوموا) رواه الترمذي (738) وقال: حسن صحيح .
قال الترمذي رحمه الله: "ومعنى هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن يكون الرجل مفطراً فإذا بقي من شعبان شيءٌ أخذ في الصوم لحال شهر رمضان .
وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يشبه قولهم حيث قال صلى الله عليه وسلم: ( لا تقدموا شهر رمضان بصيام إلا أن يوافق صوماً كان يصومه أحدكم). وقد دلَّ في هذا الحديث: إنَّما الكراهية على من يتعمد الصيام لحال رمضان" ا.هـ
وعن أُسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت: يا رسول الله!ما أراك تصوم شهراً من الشهور، ما تصوم من شعبان قال: ( ذلك شهرٌ يغفل الناس عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهرٌ ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأُحِبُّ أن يُرفَعَ عملي وأنا صائم ) صحيح سنن النسائي (2221).
قولهُ ( شهرٌ يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان )؛ يشير صلى الله عليه وسلم إلى شهرين عظيمين، الشهر الحرام، وشهر الصيام، اشتغل الناس بهما عنهُ، فصار مغفولاً عنه، وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيامهِ لأنهُ شهرٌ حرام، وليس كذلك .
وفي قولهِ صلى الله عليه وسلم ( يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان ): إشارة إلى أنَّ بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيرهُ أفضل منه . إمَّا مطلقاً أو لخصوصيةٍ فيه لا يتفطنُ لها أكثر الناس . فيشتغلون بالمشغول عنه، ويفوتون تحصيل فضيلة ما ليس بمشهورٍ عندهم .
وفيه دليلٌ على استحباب عِمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأنَّ ذلك محبوبٌ لله عزَّ وجل، كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشائين بالصلاة، ويقولون هي ساعة غفلة .
وكذلك فضل القيام في وسط الليل؛ لشمول الغفلة لأكثر الناس فيه عن الذكر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممَّن يذكر الله في تلك الساعة فكن ) أخرجه الترمذي (3079) والنسائي (1/279 -280) والحاكم (3911) وصححهُ ووافقهُ الذهبي.
ولهذا المعنى كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يُأخِّرَ العِشاء إلى نصف الليل، وإنَّما علَّلّ ترك ذلك؛ لخشية المشقة على الناس . ولمَّا خرج صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم ينتظرونه لصلاة العشاء قال لهم: ( ما ينتظرها أحدٌ من أهل الأرض غيركم ) متفقٌ عليه .
وفي هذا إشارةٌ إلى فضيلة التفرد بذكر الله في وقت من الأوقات لا يوجد فيه ذاكرٌ لهُ، ولهذا ورد في فضل الذكر في الأسواق ما ورد من الحديث المرفوع: ( من قال في السوق: لا إله إلاَّ الله وحدهُ لا شريك لهُ، لهُ الملك، ولهُ الحمد يحيي ويميت، وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيءٍ قدير، كتب الله لهُ ألفَ ألفَ حسنة، ومحى عَنهُ ألفَ ألفَ سيئة، وبنى لهُ بيتاً في الجنَّة ) صحيح سنن الترمذي (2726) .
وفي حديث أبي ذرٍ المرفوع: ( ثلاثةٌ يحبهم الله، ويضحك إليهم ويستبشر بهم: الذي إذا انكشفت فئةٌ قاتل ورائها بنفسه لله عز وجل، فإمَّا أن يقتل وإمَّا أ ن ينصرهُ اللهُ ويكفيه، فيقول: انظروا إلى عبدي هذا كيف صبر لي بنفسهِ؟ والذي لهُ امرأةٌ حسنةٌ وفراشٌ لينٌ حسن، فيقوم من الليل، فيقول: يذر شهوتهُ ويذكرني، ولو شاء رقد. والذي إذا كان في سفر وكان معهُ ركبٌ فسهروا ثمَّ هجعوا، فقام من السحر في ضرَّاء وسرَّاء ) قال المنذري في الترغيب: "رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن".
فهؤلاء الثلاثة انفردوا عن رفقتهم بمعاملة الله سراً بينهم وبينهُ، فأحبهم الله .
فكذلك من يذكر الله في غفلة الناس، أو من يصوم في أيَّام غفلة الناس عن الصيام .
عن نعيم بن عمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا ضحك ربك إلى عبد في الدنيا فلا حساب عليه )، قال المنذري في الترغيب (41/319): "رواهُ أحمد وأبو يعلى، ورواتهما ثقات"
وفي إحياء الوقت المغفول عنهُ بالطاعة فوائد
منها: أنَّهُ يكون أخفى، وإخفاءُ النوافل وإسرارها أفضل، لا سيما الصيام، فإنَّهُ سرٌ بين العبد وربِّه .
ومنها: أنهُ أشق على النفوس؛ وأفضل الأعمال أشقُّها على النفوس، وسبب ذلك أنَّ النفوس تتأسَّى بما تشاهدهُ من أحوال أبناء الجنس، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعاتهم كثر أهل الطاعة؛ لكثرة المقتدين بهم، فسهلت الطاعات. وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسَّى بهم عموم الناس، فيشق على نفوس المتيقظين طاعاتهم؛ لقلة من يقتدون بهم فيها، ولهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنَّ من ورائكم أيام الصبر، للمتمسك فيهنَّ يومئذٍ بما أنتم عليهِ أجر خمسين منكم، قالوا: يا نبي الله أومنهم! قال: بل منكم )أخرجه ابن نصر في السنة (ص9) بسند صحيح .
وفي صحيح مسلم رقم (2948) من حديث مَعْقِل بن يسار، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ( العبادة في الهرج كالهجرة إلي ) . وخرَّجهُ الإمام أحمد (5/27)، ولفظهُ ( العبادة في الفتنة كالهجرة إلي ).
وسبب ذلك أنَّ الناس في زمن الفتن يتبعون أهوائهم ولا يرجعون إلى دين، فيكون حالهم شبيهاً بحال الجاهلية، فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينهِ ويعبدُ ربَّهُ ويتبع مرَاضيَهُ، ويجتنب مَسَاخِطَهُ، كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمناً بهِ، متَّبِعاً لأوامرهِ، مجتنباً لنواهيه .
وفي الختام فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( افعلوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإنَّ لله نفَحَات من رحمتهِ، يصيب بها من يشاء من عبادهِ، وسلوا الله أن يستر عوراتكم، وأن يؤمِّن روعاتكم ) أخرجهُ الطبراني في الكبيبر (720) وحسَّنَهُ المحدِّث الألباني في الصحيحة (1890).
"فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحةٌ من تلك النفحات، فيسعد بها سعادةً يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات"لطائف المعارف (ص40).
فمن أعظم نفحَاتِهِ مصادفة ساعة إجابة يسأل فيها العبد الجنَّة والنَّجاة من النَّار، فيُجابُ سُؤاله، فيفوز بسعادة الأبد . قال الله تعالى: (( فَمَنْ زُحْزِحَ عِنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ )) [ آل عمران: 185 ] . وقال الله تعالى: (( فَأَمَّا الَّذِيْنَ شّقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيق * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّك إِنَّ ربَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيد * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَّنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّك عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذ )) [ هود: 106 - 108 ] .
لـيس السعيد الذي دنياهُ تسعِدُهُ * إنَّ السعيد الذي ينجو من النار
نسأل الله تعالى أن يجعل عملنا خالصاً لوجههِ الكريم، ومقرباً إليهِ وإلى دارهِ، دار السلام والنعيم المقيم، وأن ينفعَنا بهِ وعبَادَهُ المؤمنين، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى، ويختم لنا بخيرٍ في عافية، فإنَّهُ أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، آمين .
و " سبحان الله وبحمدهِ، سبحانك اللَّهمَّ وبحمدِك، أشهد أن لا إله إلاَّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك "
عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قال سبحان الله وبحمدهِ، سبحانك اللَّهمَّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاَّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك، فقالها في مجلس ذكر كانت كالطابع يطبع عليهِ، ومن قالها في مجلس لغو كانت كفارةً لهُ ) أخرجهُ الحاكم (1/537) وصححهُ على شرط مسلم، ووافقهُ الذهبي