HOUWIROU Admin
عدد الرسائل : 14822 نقاط التميز : تاريخ التسجيل : 02/04/2008
| موضوع: التحكيم التجاري الدولي و دوره في عولمة النظام القانوني لعقود التجارة الدولية السبت 18 يناير 2014 - 16:50 | |
|
[center]التحكيم التجاري الدولي و دوره في عولمة النظام القانوني لعقود التجارة الدولية
بقلم الأستاذ: د. بن أحمد الحاج. مقدمة: أضحى التحكيم التجاري الدولي أهم وسيلة يلجأ إليها المتعاملون في التجارة الدولية لحل النزاعات الناجمة عن تعاملاتهم( )، حيث لا يكاد يخلو عقد من العقود المتصلة بهذا النوع من التجارة من شرط يحيل بموجبه الأطراف جميع الخلافات التي قد تقع بينهم بشأن تفسير أو تنفيذ العقد المبرم بينهم إلى قضاء التحكيم للفصل فيها. ولما كانت انطلاقة التحكيم قد اقترنت أصلا بنمو العلاقات الاقتصادية الدولية بين الأفراد والدول، فطبيعي أن يصبح في عصر الانفتاح الاقتصادي الذي نعيشه من أهم الظواهر القانونية المعاصرة، حيث اتسع نطاق اللجوء إليه مسجلا بذلك اتجاها متصاعدا نحو الإفلات من سلطان قضاء الدولة وسلطان القانون الذي تصنعه، إلى قضاء خاص يُنَصِّبُه أطراف النزاع بأنفسهم، وإلى نظام قانوني تشكل ملامحه الممارسات العملية، ويتلاءم مع مقتضيات التجارة التي يديرونها. وإذا كان قضاء التحكيم أداة لتحقيق العدالة كما هو شأن قضاء الدولة، إلا أنه يتميز مع ذلك عن هذا الأخير في نطاق التجارة الدولية بميزة هامة هي قدرته على حسم المنازعات عن طريق ابتداع حلول مستلهمة من واقع تلك التجارة، وعن طريق الاستعانة بما تزخر به من أعراف وعادات ومبادئ عبر دولية وفقا لمنهج يخدم مصالح التجار، ويحقق لهم الأمان واليقين القانونيين في نطاق مجتمعهم، فأصبح بذلك الوسيلة المثلى لتدويل النظام القانوني الذي يحكم عقود التجارة الدولية. وسنحاول من خلال ما سيأتي تبيان دور قضاء التحكيم في تدويل النظام القانوني لعقود التجارة الدولية ومنهجه في ذلك، وهذا بعد تحديد ماهية التحكيم التجاري الدولي ودواعي اللجوء إليه. المطلب الأول: ماهية التحكيم التجاري الدولي ودواعي اللجوء إليه. يجمع العديد من الباحثين على أن التحكيم التجاري الدولي قد أضحى بمثابة القضاء الطبيعي للمنازعات التي تثور في نطاق عقود التجارة الدولية الحديثة( )، فقد احتل في الوقت الحاضر مكانة متميزة كوسيلة لفض المنازعات المتعلقة بهذا النوع من العقود( )، وذلك راجع إلى مزايا عديدة يتمتع بها هذا النظام مقارنة بقضاء الدولة. وقبل البحث في دواعي وأسباب اللجوء إلى هذه الوسيلة وتفضيلها من قبل المتعاملين في نطاق التجارة الدولية، وجب البحث في ماهيتها وتمييزها عن غيرها من وسائل حل المنازعات المعروفة في نفس النطاق، وهذا فيما يلي: الفرع الأول: ماهية التحكيم التجاري الدولي. إن البحث في ماهية التحكيم التجاري الدولي يحتم التطرق لتعريفه، ثم لبيان خصائصه، وذلك فيما يلي: أولا– تعريف التحكيم التجاري الدولي: إن التحكيم عموما هو صورة من القضاء الخاص الإتفاقي يهدف إلى عرض النزاع على أشخاص من غير جهات القضاء العادي ليفصلوا فيه بموجب حكم واجب النفاذ( )، أو هو "تقنية ترمي إلى إعطاء حل لمسألة تكون محل اهتمام علاقات بين شخصين أو أكثر، والذي يتولاه شخص أو أكثر يستمدون سلطتهم من اتفاق خاص يحكمون على أساسه دون أن تقلدهم الدولة هذه المهمة"( ). ويذهب الفقيه "Fouchard" إلى تعريف التحكيم على أنه "اتفاق الأطراف على أن يخضعوا نزاعهم إلى قضاء خاص يختارونه"( )، بينما يعرفه الفقيهان "Robert" و"Moreau" بأنه "نظام للقضاء الخاص يتم بموجبه إخراج المنازعة من القضاء العادي ليتم الفصل فيها بواسطة أفراد يكتسبون مهمة القضاء فيها"( ). وقد اعتبره البعض بأنه "الطريقة التي يختارها الأطراف لفض المنازعات التي تنشأ عن طريق طرح النزاع، والبت فيه أمام شخص أو أكثر يطلق عليهم اسم المحكم أو المحكمون دون اللجوء إلى القضاء"( )، في حين رأى البعض الآخر بأنه "خصومة ومحكم يزود بسلطة الفصل فيها بقرار ملزم، واتفاق بين الخصوم على التحكيم"( )، أو هو "النظام الذي بموجبه يسوي طرف من الغير خلافا قائما بين طرفين أو عدة أطراف ممارسا لمهمة قضائية عهدت إليه عن طريق هؤلاء الأطراف"( ). ومهما يكن فإن التحكيم ليس في حقيقته سوى مجموعة من الأعمال المتتالية، ويتمثل العمل الأول في الفعل الذي يقوم به المتنازعان اللذان يختاران طرفا أو أطرافا محايدين للفصل في النزاع القائم بينهما، مع ارتضائها مسبقا بما سيصل إليه من حكم، بينما يتمثل العمل الثاني في الفعل الذي يقوم به الطرف المحايد والمختار من قبل المتنازعين، حيث يقوم بالتحري في الوقائع والبحث عن القواعد القانونية واجبة التطبيق، لينتهي بحكم يجسد بموجبه العدالة تماما مثل الحكم القضائي الصادر عن جهات القضاء العادي. وإذا كان المهم في تعريف التحكيم التجاري الدولي أن يتضمن مجمل العمليات التي يتألف منها بداية من اتفاق الأطراف على طرح نزاعهم على محكم معين، وصولا إلى عمل هذا الأخير، فإن وجوب تعلق النزاع المطروح بمعاملات التجارة الدولية أمر في غاية الأهمية وذلك لتحديد المضمون الحقيقي له، إذ ليس كل تحكيم تحكيما تجاريا دوليا، مما يعني أن وجود العناصر السابقة، وإن كانت تكفي لبيان ذاتية التحكيم على وجه العموم، إلا أنها تبقى مع ذلك قاصرة عن إدراك المعنى الحقيقي للتحكيم التجاري الدولي محل الدراسة، والذي يعد عنصر اتصال النزاع بالتجارة الدولية إلى العناصر المميزة له عن سائر أنواع التحكيم الأخرى، سواء في العلاقات الخاصة الداخلية أو في نطاق العلاقات المنضوية تحت لواء القانون الدولي العام. وبهذا فإن التحكيم التجاري الدولي ما هو –حسب اعتقادنا- إلا نظام قضائي خاص يتولى تسوية المنازعات المرتبطة بالتجارة الدولية بناء على اتفاق بين الأطراف المتنازعة. ثانيا– خصائص التحكيم التجاري الدولي: من خلال التعريف السابق يمكننا أن نستشف العناصر الجوهرية للتحكيم التجاري الدولي، والتي يمكن حصرها فيما يلي: 1-التحكيم التجاري الدولي نظام قضائي خاص: إن التحكيم التجاري الدولي هو مسار للفصل في الادعاءات المتباينة التي يتمسك بها أطراف النزاع( )، وذلك وفقا لقواعد قانونية متكاملة موضوعية وإجرائية تتولى تنظيم سير الفصل في الخصومة إلى غاية صدور حكم حاسم للنزاع حائز لقوة الشيء المقضي فيه واجب التنفيذ بواسطة السلطة العامة( )، مما يعني أن التحكيم يؤدي نفس الوظيفة التي يؤديها القضاء. ويعد نظام التحكيم نظاما قضائيا خاصا لأن المحكمين لا يمارسون سلطتهم في التصدي للنزاع باسم دولة معينة،( ) ذلك أن الطبيعة القضائية لهذا النظام في نطاق العلاقات الاقتصادية الدولية إنما تؤسس على أسباب مستقلة عن الأنظمة القانونية الداخلية، فيكون المحكم حال نظره في النزاعات المتعلقة بتلك العلاقات غير مرتبط لا إجرائيا ولا موضوعيا ولا وظيفيا بأية دولة، وذلك على خلاف القاضي الذي يستمد سلطته أصلا من دولته التي تمنحه مكنة النظر في النزاعات التي تندرج ضمن اختصاصه. 2-التحكيم التجاري الدولي نظام مختص بالفصل في منازعات التجارة الدولية: من بين أهم ميزات التحكيم التجاري الدولي أنه نظام قضائي يختص بالفصل في المنازعات المرتبطة بمعاملات التجارة الدولية، مما يعني أنه لابد من وجود نزاع أولا، ثم تعلق هذا الأخير بمعاملات التجارة الدولية ثانيا. ويعدّ وجود عنصر النزاع أمرا لازما لقيام التحكيم، فإذا انتفى وجود النزاع انتفى معه وجود التحكيم أصلا، فلو قام أطراف عقد بيع دولي معين بتخويل محكم سلطة تحديد الثمن فيه أو غير ذلك من المسائل الجوهرية التي لا ينعقد ذلك العقد بدونها، فإن الأمر لا ولن يتعلق في هذه الحالة بنظام التحكيم( )، وذلك لعدم وجود نزاع يعمل المحكم على حسمه طالما أن دوره يتمثل في هذه الحالة في استكمال العناصر الجوهرية للعقد، حتى ولو سماه الأطراف محكما( ). وترتبط فكرة النزاع في التحكيم التجاري الدولي بطبيعة قانونية أو ادعاء قانوني "Prétention juridique"، فلو تدخل شخص ثالث عينه الطرفان من أجل تطويع شروط العقد ضمانا لتحقيق العدالة بينهما، فإن الأمر لا يتعلق بتحكيم وفقا للقانون "Arbitrage selon le droit"، وذلك لأن مهمة هذا المحكم لا تنصرف إلى إصدار قرار قضائي ملزم لطرفيه، وإنما مجرد تقديم تقرير فني لهما لا يتمتع بقوة الإلزام، لذلك فهو ليس في الحقيقة سوى تحكيم خبرة( ). ولا يكفي من جهة ثانية أن يتعلق التحكيم بنزاع معين حتى يعدّ تجاريا دوليا، بل لابد أن يتعلق هذا النزاع بالتجارة الدولية. ولقد كان معيار تجارية التحكيم في بداية الأمر تقليديا يقتصر على المنازعات التجارية بمفهومها في التقنينات الوطنية، وعلى الرغم من عدم وجود معيار واحد وعالمي في شأن تقسيم المنازعات إلى مدنية وتجارية، إلا أن الدول ذات الأنظمة اللاتينية قد اعتمدته تماشيا مع سياستها التشريعية المتحفظة اتجاه التحكيم( ). إلا أنه ومع تطور السياسة التشريعية لمعظم الأنظمة القانونية والتي أصبحت تشجع التحكيم في نطاق العلاقات التجارية الدولية تماشيا مع التطورات التي لحقت بهذه الأخيرة، حلّ مفهوم جديد لتجارية التحكيم، حيث أصبح يكفي في ظل تلك الأنظمة أن تتعلق المنازعة بتبادل قيم اقتصادية في مقابل حتى يكون التحكيم تحكيما تجاريا دوليا، فالتجارة الدولية تتسع لتشمل كل العلاقات الاقتصادية التي تهدف إلى إنتاج أو تحويل و تداول للبضائع أو أداء للخدمات والتي تتجاوز حدود الدولة الواحدة( ). وقد تبنى القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي الصادر عن لجنة الأمم المتحدة لقانون التجارة الدولية مفهوما موسعا للتجارة الدولية، أي أخذ بالمعيار الحديث لتجارية أو اقتصادية التحكيم، فيكون هذا الأخير تجاريا كلما نشأ النزاع حول علاقة قانونية ذات طابع اقتصادي( ). 3-التحكيم التجاري الدولي نظام قائم على اتفاق الأطراف المتنازعة: إن الميزة الأخرى للتحكيم التجاري الدولي هي أنه نظام يقوم أساسا على إرادة الأطراف، أي أنه مسار اتفاقي رهين بقبول هؤلاء اللجوء إليه للفصل في النزاع المطروح بينهم، وأن سلطة المحكم وصلاحياته تستمد وتحدد بموجب هذا الاتفاق، وذلك على خلاف القضاء الذي ينصب فيه القاضي من قبل الدولة ويستمد ولايته وسلطاته من قانونها ( ). وعليه فإن التحكيم التجار الدولي، وإن كان مسارا للفصل في النزاع إلا أنه مسار لا يملك أحد المتنازعين سلوكه بإرادته المنفردة، وإنما يتعين اتفاق الأطراف على اختياره كوسيلة لحل النزاع المطروح بينهم، مما يعني أن هذا النوع من التحكيم يختلف عن التحكيم الإجباري "L’arbitrage forcé"، فهذا الأخير وإن كان يتعلق بالتجارة الدولية، إلا أن إرادة الأطراف تنعدم فيه، لأنهم ملزمون وفقا لقواعد قانونية آمرة في تشريعاتهم الوطنية باللجوء إليه لفض نزاعاتهم. ( ) الفرع الثاني: دواعي اللجوء إلى التحكيم التجاري الدولي. يبدو من خلال استقراء الواقع أن المتعاقدين في مجال التجارة الدولية المعاصرة يستبعدون اللجوء في أغلب الأحوال اللجوء إلى القضاء الوطني لحل النزاعات التي قد تقع أو تكون قد وقعت بينهم بالفعل، ويفضلون بدلا من ذلك اللجوء إلى التحكيم التجاري الدولي الذي أصبح يعيش اليوم أزهى عصوره، حيث لم يعد مجرد نظام استثنائي ينافس عدالة الدولة، بل أضحى نظاما بديلا للنظام القضائي لها. وتعود أسباب اللجوء إلى التحكيم التجاري الدولي إلى مجموعة من المزايا التي يقدمها هذا النظام في حل المنازعات الناشئة عن العلاقات الاقتصادية العابرة للحدود، سواءا تعلق الأمر بالمعاملات التجارية المعتادة، أو تلك التي تكون فيها الدولة أو أحد فروعها طرفا فيها. أولا- دواعي اللجوء إلى التحكيم في العلاقات التجارية الدولية المعتادة: إن لجوء المتعاملين في مجال التجارة الدولية إلى قضاء التحكيم لحل النزاعات التي تثور بينهم يجد بعض مبرراته في المساوئ التي يعاني منها النظام القضائي الوطني، والتي تجعله يقدم عدالة لا تستجيب لرغبات الأطراف المتنازعة، ولا تتلاءم مع مقتضيات تلك التجارة. ويعود رفض القضاء الوطني كنظام يتولى فض النزاعات القائمة بين المتعاملين الدوليين إلى عدة أسباب لعل أهمها صعوبة تحديد المحكمة التي يمكن اللجوء إليها وذلك بالنظر إلى انتماء المتعاقدين إلى دول مختلفة، وهذا علاوة على أنّ نجاح الدعوى متوقف على إقامة المدعى عليه في ذات البلد الذي ترفع فيه تلك الدعوى، وعلى الإلمام بالقانون واجب التطبيق على موضوع النزاع، ولغة المناقشات والإجراءات المتبعة أمام المحاكم الوطنية، وكل هذا بالإضافة إلى عدم الحياد الذي قد يعاني منه الخصوم من القاضي الوطني( ). وعن واقع المنازعات التي تعرض على القضاء الوطني يمكن تسجيل ظواهر عديدة في غير صالح المتعاملين، ذلك أن المنازعات أضحت ذات طابع فني نتيجة ثورة العلم والتكنولوجيا التي يشهدها المجتمع المعاصر مما أدى إلى إثارة مسائل لا يستطيع القاضي الوطني الفصل فيها دون الاستعانة بأهل الخبرة، بل وفي كثير من الأحيان تكون التصرفات محكومة بأعراف وعادات وممارسات مهنية لا علم للقاضي بها، وهو ما يجعله ملزما بالرجوع إلى أهل الخبرة، وهكذا صار الفصل في النزاع يحتاج دوما إلى فني متخصص على دراية بوقائع ذلك النزاع والقواعد التي تحكمه، فأضحى لجوء القاضي إلى التماس الخبرة مؤديا في معظم الأحيان إلى حلول الخبير من الناحية العملية محل القاضي في الفصل في الدعوى، وذلك خلافا للأصل المتمثل في أن رأي الخبري ليس سوى مجرد رأي استشاري( ). ومن الظواهر التي يشهدها واقع المنازعات المعروضة على القضاء ظاهرة العقود المستحدثة والتي تتسم بطابع معقد وبالسرعة في التطور، ومن ذلك العقود المتعلقة بالاستثمار والتنمية واتفاقات البحوث واستعمال براءات الاختراع والحصول على الدراية الفنية وعقود التعاون بين المشروعات في تنفيذ الأعمال وعقود التجارة الإلكترونية، وكلها عقود نشأت نشأة عملية بعيد عن القواعد القانونية الوطنية التقليدية، التي قد تظل عاجزة لسنوات عن إدراك ومواجهة المسائل الفنية لتلك العقود، مما يجعل القاضي الوطني في موقف العاجز عن إيجاز الحلول الملائمة للنزاعات المطروحة أمامه بشأن هذه العقود. وبهذه المثابة وجد المتعاملون الدوليون في إخضاع منازعاتهم للقضاء الوطني عائقا أمام نشاطاتهم، فأضحوا يعمدون من أجل تخطي ذلك إلى تضمين عقودهم شرطا يقضي بإخضاع المنازعات الناشئة عنها إلى قضاء التحكيم، حتى غدت ظاهرة ارتباط العقود الدولية باتفاق التحكيم ظاهرة ترافق غالبية العقود بغض النظر عن موضوعها( )، ذلك أنه وعلى خلاف القضاء الوطني فإن للتحكيم التجاري الدولي مزايا عديدة تدفع بالمتعاملين الدوليين إلى تفضيل اللجوء إليه كقضاء بديل عن قضاء الدولة، فهو نظام يضمن السرعة وقلة الشكليات والسرية والحرية للأطراف، وكلها مزايا لا تتوافر في القضاء الوطني.
فمن حيث السرية يحقق التحكيم التجاري الدولي للأطراف سرية عزيزة عليهم( )، وذلك على خلاف القضاء الوطني الذي يأخذ بمبدأ علنية الجلسات والتي تقد من الضمانات الأساسية للتقاضي( )، بل وحقا من حقوق الإنسان لدى البعض الآخر( ). غير أن العلنية التي تحيط بالقضاء الوطني لا تلائم تطلعات المتعاملين في مجال التجارة الدولية الذين يحرصون على حل نزاعاتهم بأقل قدر يمكن من العلنية والنشر، لما في ذلك من مساس بسمعتهم ومراكزهم المالية والاقتصادية. ولهذا يفضل أصحاب المشروعات التجارية اللجوء إلى التحكيم لفض المنازعات الناشئة بينهم، خاصة وأن المعلومات والبيانات المتعلقة بعناصر المشروع وخططه المستقبلية ينبغي أن تبقى سرية، وإفشاؤها سيلحق بهم أبلغ الضرر في مجال المنافسة الدولية، خاصة وأن هناك من المعاملات الدولية المعاصرة ما تعد سرية بياناتها ومفاوضاتها هي كل رأسمالها، كعقود نقل التكنولوجيا والمعرفة الفنية في مجالات تصنيع الدواء وتصنيع الأقمار الصناعية ونظم الحواسيب الإلكترونية وغيرها ( ). ويتميز قضاء التحكيم من جهة أخرى بسرعة الفصل في المنازعات المطروحة أمامه وذلك على خلاف القضاء الوطني الذي يعاني من البطء في الإجراءات والتراخي في الفصل في الدعاوى وما يترتب عنه من طول في أمد التقاضي، ولا يخفى على أحد ما تحمله هذه الظاهرة للمتقاضين وحرمان صاحب الحق من التمتع بحقه إن هو قد حصل عليه بعد كل تلك الفترة. وكبديل مضمون من حيث سرعته يلجأ المتعاملون في ميدان التجارة الدولية إلى التحكيم، حيث يلتزم المحكم بالفصل في المنازعة خلال فترة زمنية محددة سواء باتفاق الأطراف أو بغير اتفاقهم، إضافة إلى أن إجراءات الفصل فيها أكثر تبسيطا من تلك المتبعة أمام القضاء الوطني. وعلاوة على هذا فإن قضاء التحكيم هو قضاء من درجة واحدة، حيث يتمتع القرار الصادر عنه بحجية الأمر المقضي فيه، ولا يجوز الطعن فيه أمام القضاء بأي طريق من طرق الطعن( )، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى الحصول على عدالة خاصة وسريعة، كما تضمن نهائية القرار التحكيمي المستقبل التنفيذي له( ). وإذا كان الثابت أن بعض التشريعات تجيز الطعن في قرارات المحكمين أمام الهيئات القضائية الوطنية، فإن الواقع يثبت الرغبة الأكيدة للخصوم في زيادة سرعة التحكيم، حيث لا يلجأ هؤلاء إلى الطعن فيها إلا في فروض قليلة لا تزيد نسبة 8% من القرارات المعنية، في حين أن 92% من تلك القرارات إنما يتم تنفيذ ما ورد فيها بشكل مباشر ومن دون طعن( ). ويوفر قضاء التحكيم إلى جانب كل من السرية والسرعة ميزة أخرى تتمثل في الحرية التي يوفرها للأطراف على صعيد العلاقات التجارية الدولية، وهي حرية لا تتحقق في النظام القضائي الوطني، فلهم بذلك حرية لا حدود لها من حيث اختيار نوع التحكيم، سواء كان مؤسسيا أو تحكيم حالات خاصة، وحول ما إذا كان تحكيما مطلقا أو تحكيما بالقانون، كما يملكون سلطة تحديد مكان إجراء التحكيم وزمانه والقانون الذي يطبق على اتفاق التحكيم وإجراءاته وموضوع المنازعة التي ثارت بينهم( ). ومن المعلوم أن قضاء التحكيم يلعب دورا حاسما في تحقيق الهدف الذي يسعى إليه رجال الأعمال في مجال التجارة الدولية، فالتحكيم –كما سيأتي بيانه لاحقا- يسمح لأطراف عقود التجارة الدولية اختيار القواعد القانونية واجبة التطبيق بغض النظر عن مصدرها، مما يعني إمكانية التحرر الكامل من ربقة أي قانون من القوانين الوطنية، والاكتفاء بدلا من ذلك بقواعد نشأت في رحاب المجتمع الدولي للتجار ورجال الأعمال والمتمثلة في العادات والأعراف السائدة في التجارة الدولية بالإضافة إلى المبادئ العامة السارية في نفس النطاق( ). ولاشك أن غياب السلطة العالمية عن مجتمع التجار العابر للحدود، والتي يمكنها أن تقيم جهازا يتولى الفصل في المنازعات الناشئة عن المعاملات التجارية الدولية وفق للقواعد الموضوعية التي من المفروض أن تخضع لها تلك المعاملات، يعد سببا آخر يدعو إلى اللجوء لقضاء التحكيم التجاري الدولي( )، مما يعني حسب البعض أن هذا الأخير لم يعد مجرد نظام خاص يقوم على جوار نظام عام هو قضاء الدولة، وإنما هو النظام القضائي الوحيد الذي يستقل بأداء الوظيفة القضائية في نطاق هذا النوع من المعاملات( ). ثانيا- دواعي اللجوء إلى التحكيم التجاري الدولي في عقود الدولة: يبدو أن التنظيم الاقتصادي العالمي الجديد الذي بدأ في الظهور مع نشأة المنظمة العالمية للتجارة قد أدى على خلاف ما اعتقده البعض إلى اتساع دور الدولة في مجال العلاقات التجارية الدولية، فهذه الأخيرة تحررت من كل القيود ولم يعد فيها أي فرق بين من يمارس الأعمال التجارية سواء كان من أشخاص القانون العام أو أشخاص القانون الخاص. وطبيعي أن تشجيع حركة التجارة وازدهارها وكفالة حريتها يقضي بإخضاع جميع المنازعات المتعلقة بها إلى قضاء التحكيم، حيث أخذ هذا الأخير حيزا هاما من بين جميع وسائل تسوية المنازعات، حتى ولو تعلق الأمر بالعقود التي تكون الدولة أو أحد فروعها طرفا فيها. وعلى العموم فإن الأسباب التي تدفع بالأطراف في عقود الدولة لاختيار قضاء التحكيم التجاري الدولي كوسيلة لفض المنازعات التي قد تنشأ، أو تكون قد نشأت بينهم بالفعل إلى نوعين من الأسباب، يعود الأول منها إلى الطرف الأجنبي المتعاقد مع الدولة، في حين يعود النوع الثاني منها إلى الدولة الطرف في العقد. 1-دوافع الطرف الأجنبي المتعاقد مع الدولة: درءا للخطر الكامن وراء انحياز القضاء الوطني لصالح الدولة المتعاقدة، يعمد الطرف الأجنبي المتعاقد معها إلى تضمين العقد الذي يبرمه مع تلك الدولة شرطا يسلب الاختصاص من ذلك القضاء( )، ومنحه لقضاء مستقل عنها هو قضاء التحكيم، وهو شرط يتمسك به هذا الطرف ولو حال ذلك دون إبرام العقد( ). ومعلوم أن الدولة وإن كانت مجرد طرف في العقد المبرم، إلا أنها تبقى مع ذلك طرفا غير عادي من حيث المزايا والسلطات التي تتمتع بها، وهو ما يمكنها من التأثير على حياد القضاء فيصدر أحكاما تتماشى ومصالحها، ومن دون الأخذ بعين الاعتبار مصالح الطرف الآخر والذي سيتضرر سلبا من وراء هذا التصرف المنافي للعدالة. ومن المخاطر المتولدة عن عقود الدولة أيضا إمكانية تمسك الدولة بحصانتها القضائية أمام القضاء الوطني لدولة أخرى على نحو يجعل يده مغلولة عن النظر في المنازعات التي تكون هذه الدولة طرفا فيها، وهنا تكمن الخطورة العظمى بالنسبة للطرف الأجنبي والذي سيتعرض لإهدار في حقوقه بمجرد دفع الدولة بحصانتها أمام القضاء. وطالما أن الأمر كذلك فلا مناص للطرف الأجنبي من تجنب كل تلك المخاطر سوى إدراج شرط يقضي بعرض المنازعات الناشئة بينه وبين الدولة المتعاقدة على قضاء محايد ومستقل عن قضاء الدولة هو التحكيم التجاري الدولي. 2-دوافع اللجوء إلى التحكيم بالنسبة للدولة المتعاقدة: تسعى الدول في ظل الوضع الاقتصادي الحالي، وعلى اختلاف توجهاتها إلى تحقيق تنمية اقتصادية شاملة بها، وهي بهذا تقوم بإبرام العديد من العقود مع المستثمرين والمشروعات الأجنبية، كتلك المتعلقة بنقل التكنولوجيا وتراخيص استغلال الثروات الطبيعية والتنقيب عن المحروقات وشق الطرقات وامتياز المرافق العامة وغيرها. وعادة ما تواجه هذه التعاقدات والاستثمارات صعوبات جمة تحول دون إتمامها وإنجازها، ومن بين هذه الصعوبات كيفية تسوية المنازعات التي قد تثور بين الدولة أو أحد فروعها وبين الطرف الأجنبي وبين الطرف الأجنبي، حيث يخشى هذا الأخير إهدار حقوقه لعدم وجود ضمانات كافية تحمي حقوقه واستثماراته بهذه الدولة( ). وحتى تضمن الدولة استقطاب أكبر قدر ممكن من الاستثمارات، فهي لا تتردد في توفير ضمانة التحكيم التجاري الدولي كوسيلة لفض المنازعات بينها وبين الطرف الأجنبي، وغير خفي أن هذا الأخير لا يجازف باستثماراته إذا لم يكن متاحا له وضع شرط التحكيم، أو إبرام اتفاقية تحكيم لمواجهة ما قد يثور من خلافات في المستقبل، لذلك يلاحظ اتجاه معظم قوانين الاستثمار الخاصة بالدول نحو الاعتداد بالتحكيم وتبنيه كوسيلة لفض المنازعات مع المستثمرين( )، وذلك لبث الطمأنينة في أنفسهم وتشجيعهم على استثمار أموالهم، وهو الأمر الذي لن يتحقق فيما لو أبر هؤلاء على مواجهة العدالة الوطنية( ). بل وأكثر من ذلك فإن التحكيم التجاري الدولي لم يعد في الوقت الحاضر –حسب العديد من الفقهاء- مجرد قضاء اتفاقي يتوقف على إرادة الخصوم، وإنما صار أقرب إلى القضاء الملزم والدائم( )، ذلك أن التراضي على اللجوء إليه أصبح أقرب إلى التسليم بشروط محددة سلفا لا تترك مجالا كبيرا لحرية الاختيار، بل تفرض على الأطراف ولو بطريق غير مباشر، كما هو الحال في العقود النموذجية التي تحتوي غالبيتها على شرط التحكيم، علاوة على أن انتشار هيئات التحكيم الدائمة والمتخصصة في عمليات التحكيم قد جعل من مسألة خضوع المنازعات المتعلقة بهذا النوع من المعاملات لهذا النظام أمرا واقعا يخضع له الخصوم بمجرد اختيارهم لإحدى هذه الهيئات( ). المطلب الثاني: تدويل النظام القانوني لعقود التجارة الدولية أمام قضاء التحكيم. يلعب التحكيم التجاري الدولي عند فصله في المنازعات المرتبطة بعقود التجارة الدولية دورا فعالا في تدويل النظام القانوني لهذه الأخيرة، وذلك من خلال إعماله لقواعد قانونية لا تنتمي للأنظمة القانونية الوطنية، وهو ما بدأ يعتبره البعض بمثابة عولمة للقانون الواجب التطبيق على تلك العقود( ). فإيمانا من المحكمين وحتى من مشرعي الدول أنفسهم بأنه من الصعوبة بما كان تطبيق قواعد قانونية لا تتفق مع طبيعة المسائل التي تثيرها العلاقات الاقتصادية الدولية، فقد بدأ استقصاء الحلول لمنازعات هذه الأخيرة يتم بالرجوع إلى عادات وأعراف التجارة الدولية، وإلى مجموعة المبادئ عبر الدولية السائدة في مجتمع التجار العابر للحدود. أما وقد اتجه قضاء التحكيم إلى تحرير عقود التجارة الدولية من هيمنة النظم القانونية الوطنية وإعمال القواعد عبر الدولية بشأنها، فإن التساؤل الذي يتبادر إلى الذهن يتمحور حول المنهج الذي يعتمده في هذا الخصوص، وهو ما سيتم التطرق إليه بعد دراسة دور ذلك القضاء في تدويل النظام القانوني لتلك العقود. الفرع الأول: تدويل النظام القانوني لعقود التجارة الدولية. يتمتع المحكم باستقلال عن أي نظام قانوني وطني، حيث لا يفصل في النزاعات المطروحة أمامه باسم أية دولة، وهو ما يعطيه خيارات واسعة تمنح له إمكانية اللجوء إلى تطبيق القواعد عبر الدولية بشكل استئثاري سواء كان ذلك بمحض اتفاق الأطراف على إعمالها، أو دون ذلك الاتفاق. والأصل أن يقوم المحكم بتطبيق القواعد عبر الدولية تطبيقا استئثاريا على موضوع النزاع المطروح أمامه نتيجة تضمين الأطراف عقدهم شرطا صريحا يفيد رغبتهم في إعمال تلك القواعد لحل ما قد ينشأ بينهم من نزاعات، مع العلم أن الواقع العملي يثبت عدم وجود اتفاق حول التعابير المستخدمة من طرف المتعاملين للدلالة هذه القواعد، غير أنه ومع ذلك فإن الأشكال المختلفة للصياغة لا تعني اختلافا في المضمون العام، فهي ليست سوى مرادفات لمعنى واحد وتصب كلها في رغبة الأطراف في تسوية نزاعاتهم بموجب قواعد قانونية غير وطنية. وعليه فقد ذهبت هيئة التحكيم تحت رعاية نظام تحكيم غرفة التجارة الدولية بباريس في قرارها الصادر سنة 1996 تحت رقم 8365 إلى تطبيق القواعد عبر الدولية تطبيقا استئثاريا، ومن دون الاستعانة بقواعد قانونية وطنية، على اعتبار أن أطراف النزاع هم من رغبوا في ذلك. وبناءا على ذلك قضت الهيئة بأن البند الوارد في عقد الضمان بتطبيق المبادئ العامة للقانون الدولي وعادات التجارة الدولية يعطي إشارة صريحة لرغبة الطرفين في استبعاد تطبيق قانونهم الوطني، أو تطبيق قانون آخر، وبالتالي فإن المجال يتسع لتطبيق قانون التجارة الدولية "Lex marcatoria". وتتمحور وقائع النزاع في عدم قيام بنك ألماني بالوفاء بقيمة ضمان مصرفي كان قد أصدره لصالح بائع ألماني عن طريق أحد البنوك الإسبانية. وقد كان المشتري الإسباني يرغب في شراء سفينة صيد من بائع ألماني، لذلك تقدم إلى بنكه الوطني ليصدر له ضمانا مصرفيا لفائدة البائع الألماني، وبعد قيام هذا الأخير بتنفيذ التزامه بتسليم السفينة محل التعاقد، لم يتلق الثمن المحدد في العقد. ونتيجة لذلك قام البنك الإسباني بمطالبة البنك الألماني بالوفاء بقيمة الضمان، غير أن هذا الأخير رفض ذلك، الأمر الذي دفع بالبنك الأول إلى اتخاذ إجراءات التحكيم للحصول على حقه. وتبعا لذلك طالب المدعي من هيئة التحكيم تطبيق القواعد عبر الدولية باعتبار أن أحد بنود العقد يقضي بتطبيق المبادئ العامة للقانون الدولي وعادات التجارة الدولية، إلا أن المدعى عليه رفض إعمال ذلك القانون، بحيث دفع بأنه قانون غير متكامل، وأن تطبيقه لا يكون إلا بهدف سدّ النقص المحتمل لمسه في القانون الوطني معتبرا أنّ المقصود بعبارة قواعد قانون التجار الدولي هو تطبيق المبادئ العامة في القانون الدولي الخاص. وعند نظرها في النزاع المطروح أمامها، انتهت الهيئة إلى تقرير مسؤولية البنك الألماني نتيجة عدم وفائه بقيمة الضمان المصرفي تأسيسا على المبادئ الواردة في قانون التجار "La.lex.mercatoria"، ومن هذه المبادئ مبدأ التعهدات الملزمة، مبدأ حسن النية في تنفيذ الالتزامات العقدية، مبدأ عدم إعفاء أحد الأطراف من تنفيذ التزامه مادام الطرف الآخر لم يخرق أحكام العقد( )، وذلك من دون الرجوع إلى أي قانون وطني. وقد يعمد قضاء التحكيم إلى إعمال القواعد عبر الدولية بشأن النزاع المطروح أمامه إعمالا استئثاريا حتى عند غياب أي اتفاق على ذلك من قبل الأطراف، إنه الاتجاه الذي أكدته هيئة التحكيم في قرارها الصادر بشأن قضية "Valenciana" سنة 1989 تحت رقم 5953. وتتعلق هذه المنازعة بين شركة أمريكية تدعى "Primary coal Inc" والشركة الإسبانية "Valenciana" حول تنفيذ عقد بيع فحم اتفقت بموجبه الشركة الأمريكية على قيام الشركة الإسبانية بتوريد الفحم لمدة ثلاث سنوات، على أن يحدد الثمن اتفاقا كل ثلاثة أشهر، كما اتفق الطرفان على إخضاع أي نزاع محتمل إلى التحكيم تحت رعاية نظام غرفة التجارة الدولية بباريس. ونظرا لعدم اتفاق المتعاقدان على الثمن لجأت الشركة الأمريكية إلى التحكيم، واتفق الطرفان في سند تحديد مهمة المحكم على قيامه بتحديد القواعد القانونية واجبة التطبيق على موضوع النزاع بموجب حكم جزئي ملتزما بالتقنين الفرنسي للإجراءات المدنية. وفي الثالث من شهر مايو عام 1988 صدر قرار تحكيم جزئي، قررت فيه الهيئة أن المنازعة ستحسم فقط وفقا لأعراف التجارة الدولية والتي يطلق عليها بشكل آخر القانون التجاري "Lex mercatoria"( ). وقد طعنت الشركة الإسبانية في هذا القرار مدعية أنه قد خالف المواد 1496 و1502/02 و1504 من قانون الإجراءات المدنية الفرنسي، حيث كان يتعين على المحكم القيام بتحديد القانون الواجب التطبيق بموجب قاعدة التنازع التي يراها ملائمة عند عدم اتفاق الأطراف على ذلك القانون، غير أنّ محكمة استئناف باريس رفضت طعن الشركة الإسبانية بموجب قرارها الصادر بتاريخ 13/07/1989، فقضت بأنه: "وفقا للائحة غرفة التجارة الدولية (المادة 13)، لا يلزم المحكم في تحديده للقانون واجب التطبيق على الموضوع بقاعدة تنازع مستمدة بالضرورة من تشريع معين، بل يجوز له اللجوء إلى المبادئ التي تحكم الموضوع"، وواصلت المحكمة معللة رفضها بأنه: "عند تطبيق المحكم لهذه المبادئ فاحصا معايير الارتباط المختلفة وباحثا عن الارتباط الأكثر تميزا للنزاع بمجموعة قواعد موضوعية ما، وآخذا في الاعتبار بصفته ينتهي إلى تقدير أن أيا من تلك الروابط المتوقعة لا يكفي لتبرير اختصاص تشريعي معين، فإنه يكون قد التزم بحدود مهمته، حيث يقرر تطبيق مجموعة مبادئ وأعراف التجارة والمعروفة بالقانون التجاري "Lex mercatoria"، وهي القواعد ذات الصفة الدولية والمتمتعة بسلطة التطبيق محل النزاع عند غياب اختصاص تشريعي محدد"( ). وهي النتيجة ذاتها التي أيدتها محكمة النقض الفرنسية في قراراها الصادر بتاريخ 22/10/1992، حيث قضت بأنه : "بإشارته إلى "مجموعة قواعد التجارة الدولية والمستخلصة بالعمل والتي تتمتع بجزاء القضاء الداخلي"، فإن المحكم يكون قد فصل بموجب القانون، وبالشكل الذي يلتزم به بموجب الاتفاق المحدد لمهمته"( ). وسيرا في نفس الاتجاه قد يقوم المحكم بتطبيق القواعد عبر الدولية ومن دون الاستعانة بقواعد قانونية وطنية على النزاع المطروح أمامه كلما ثبت له بأن هذا الأخير يتركز في النظام القانوني عبر الدولي، سواء لكونه نزاعا غريبا عن الأنظمة القانونية الوطنية أو نتيجة تمتعه بتنظيم تفصيلي في إطار الأحكام التي تتضمنها القواعد والأعراف عبر الدولية. ويعد أبلغ مثال على ذلك حسب الفقه المنازعات المتعلقة بعقد البيع الدولي للبضائع، حيث يستقر قضاء التحكيم التجاري الدولي على أن القواعد التي تتضمنها اتفاقية الأمم المتحدة بشأن عقد البيع الدولي للبضائع لسنة 1980 تتضمن أحكاما تفصيلية، وهو ما يؤدي إلى تركيز المنازعات المتعلقة بها في النظام القانوني عبر الدولي. ففي شأن منازعة تتعلق ببيع منازل مجهزة بين بائع من تكساس الأمريكية وإحدى الوزارات السورية، لم يتم الاتفاق بين الأطراف بشأنها على القانون واجب التطبيق، قضت هيئة التحكيم تحت رعاية نظام تحكيم غرفة التجارة الدولية بباريس بأنّ : "الهيئة ترى أن المنازعة التي تختص بالفصل فيها بين الأطراف تتمتع بطابع تجاري معتاد يجوز حسمها في ضوء أحكام العقد والأعراف التجارية الدولية دون أن تكون هناك حاجة إلى الاستناد إلى قانون معين". ونعتقد أن اتجاه قضاء التحكيم وفقا لهذا النهج فيه تأكيد لما توصل إليه كل من الأستاذ "Derains" السكرتير العام لمحكمة العدل الدولية بغرفة التجارة الدولية والمحكم الدولي "Lalive" في أحد أبحاثهما المشتركة بأنّ : "بعض المعاملات التجارية الدولية تتصل بشكل وثيق بالأعراف لدرجة أن المحكمين يشيرون إليها مباشرة لحل المشاكل المتعلقة بها دون توجيه النظر إلى حلول القانون الداخلي التي تطبق بصفة عامة على المنازعة، فذلك هو الحال على سبيل المثال فيما يتعلق بالبيوع الدولية، حيث يشير المحكمون بشكل نظامي إلى "incoterms" لتفسير المصطلحات التجارية مثل F.O.B، C.IF"( ). وقد يعمد المحكم في أحيان أخرى إلى تطبيق القواعد عبر الدولية لصعوبة تركيز المنازعة في أحد الأنظمة القانونية الوطنية، وكونها تتعلق بعلاقة عقدية يتوجب إخضاعها لتلك القواعد. فأما عن صعوبة تركيز المنازعة في نظام قانوني وطني معين، فقد انتهت إحدى هيئات التحكيم التي تعمل تحت رعاية نظام غرفة التجارة الدولية بباريس إلى تركيز النزاع في النظام القانوني عبر الدولي في قرارها الصادر بشأن قضية "Norsolor"، حيث رأت بأنه وعلى الرغم من مشروعية الأخذ بمبدأ سلطان الإرادة في تحديد القانون واجب التطبيق في شأن عقد الوكالة وفقا لمعاهدة لاهاي لسنة 1978، إلا أن الهيئة وجدت صعوبة في استنتاج الإرادة الضمنية للأطراف في ظل عدم إفصاحهم عن رغبتهم، فالعقد تمت صياغته في فرنسا وتم قبوله في تركيا. وعليه قررت تلك الهيئة بأنه : "نظرا لعقبة صعوبة اختيار قانون داخلي يكون تطبيقه ملزما بقدر كاف، فإن الهيئة تعتبر أنه من الملائم أخذا بالاعتبار بالطبيعة الدولية للاتفاق، أن تترك جانبا أية إشارة ملزمة إلى تشريع معين، سواء أكان التركي أم الفرنسي، وأن تطبق القانون التجاري الدولي "Lex Mercatoria""( ). وأما عن ضرورة تركيز المنازعات في النظام عبر الدولي لاحتوائه أحكاما تتولى تنظيم المسألة بشكل شامل، فقد قررت إحدى هيئات التحكيم التي تعمل تحت رعاية نظام تحكيم غرفة التجارة الدولية في قرار صادر لها تحت رقم 8331 لعام 1996( ) أنه : "من الضروري والمناسب أن تلجأ إلى تطبيق أحكام "Lex mercatoria" متمثلا في تقنين مبادئه التي صدرت عام 1994 بشأن العقود الدولية لتفسير ما ورد في مذكرة التفاهم". وتعود وقائع النزاع إلى عقد بيع دولي اتفق فيه الطرفان على إبرام مذكرة تفاهم بتاريخ 01/10/1990 بشأن الاتفاق على بيع سيارات نقل وكذا قطع الغيار اللازمة لها وخدمة ما بعد البيع، بالإضافة إلى تنظيم التعاون بينهم في المستقبل بإنشاء مشروعات مشتركة. وفي تاريخ لاحق تم إبرام عقد البيع لنحو ألفي سيارة نقل مع قطع الغيار اللازمة لها، وبعد أن قام البائع بتسليم السيارات إلى المشتري، احتج هذا الأخير على البائع بعدم تنفيذ التزاماته التعاقدية، حيث لم يقم بفحص السيارات عند وصولها إلى ميناء المشتري، فضلا عن توريده لقطع غيار لا تطابق المواصفات الواردة في العقد المبرم بين الطرفين، كما احتج على البائع بعدم تنفيذه ما جاء بمذكرة التفاهم بشأن وضع هيكل تنظيمي دائم لتركيب السيارات مستقبلا في بلد المشتري، وهو الأمر الذي نشأ عنه نزاع بين الطرفين، قام على إثره المشتري بإعمال شرط التحكيم الوارد بالعقد. وبتطبيق المادة 04/05 من مبادئ معهد روما والتي تقضي بإعمال الأثر النافع للتفسير، قررت هيئة التحكيم أن الأحكام التي تتضمنها مذكرة التفاهم تكشف بوضوح عن قصد الطرفين في إقامة تعاون بينهما في المستقبل لإنشاء مشروعات مشتركة، وبالتالي يجب اعتبارها التزاما قانونيا ملزما لكلا الطرفين لتحقيق موضوع الاتفاق. واستمرت الهيئة في تطبيق أحكام "Lex mercatoria" فلم تقبل تبعا لذلك دفع البائع، والذي مفاده أن سبب عدم تحقيق مشروع تجميع صنع السيارات يرجع إلى سوء اختياره للشريك، حيث قررت الهيئة استنادا إلى المادة 5/4/12 من نفس المبادئ أنه إذا كان مبدأ الحرية التعاقدية يتيح لكل طرف اختيار شريكه في إقامة مشروع يجمعهما، إلا أن هذا المبدأ لا يعطي لأي طرف أن يتذرع بسوء اختياره للشريك لتبرير عدم تنفيذ التزامه، بل يتعين على كل طرف أن يبذل العناية اللازمة لتنفيذ ما يترتب على عاتقه من واجبات. وبذلك انتهت الهيئة إلى تعويض المشتري عما أصابه من ضرر إعمالا لأحكام المادة 7/4/9.3 من تقنين مبادئ معهد روما والتي تعبر عن المبادئ السائدة في مجتمع التجار. وعلى الرغم من أنه يصعب القول بأن القواعد عبر الدولية هي قواعد كفيلة بوضع أحكام تفصيلية لكافة جوانب اتفاق التحكيم، إلا أن التطبيق المباشر لبعض تلك القواعد قد يؤدي في كثير من الأحكام إلى كفايتها لفض المنازعة، وبالتالي لا حاجة لتحديد قانون آخر واجب التطبيق على ذلك الاتفاق( ). فقد رأت هيئة التحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية بباريس في أحد قراراتها بأنه لا يجوز للهيئة العامة أبعد أن أبرمت اتفاق التحكيم أن تطعن في إبرامه لعدم حصولها على ترخيص حسب ما يقضي به الدستور الإيراني، فهناك مبدأ عام معترف به عالميا وهو أنه لا يجوز للدولة أو الأشخاص المعنوية العامة أن تتنكر لالتزامها باللجوء إلى التحكيم( ). تجدر الإشارة أخيرا إلى أن اختيار الأطراف لقانون وطني معين ليحكم رابطتهم العقدية لا يحول دون تطبيق المحكم للقواعد عبر الدولية تطبيقا استئثاريا على موضوع النزاع، باعتبارها تمثل قانونا للمحكم أولا، وعلى أساس تغليب الإرادة الجماعية لمجتمع التجار على إرادة المتعاقدين ثانيا( )، وهو ما تثبته مراجعة قرارات التحكيم المختصة كهيئة تحكيم غرفة التجارة الدولية بباريس، إذ طبقت في غالبيتها القواعد المتعارف عليها في مجال النزاعات المطروحة دون أن تستند إلى إرادة الأطراف( ). الفرع الثاني: منهج تطبيق القواعد عبر الدولية أمام قضاء التحكيم. إذا كان القاضي الوطني ملزما بإتباع منهج التنازع لتحديد القانون الواجب على الرابطة العقدية الدولية المطروح نزاع بشأنها أمامه، فإن المحكم يتمتع علاوة على هذا المنهج بمنهج آخر يمنح له سلطة تحديد القواعد القانونية الواجبة التطبيق، ويسمى هذا المنهج بالمنهج المباشر "La voie directe"، وهو منهج بدأت تشير إليه العديد من قرارات التحكيم الحديثة. إن تمتع القواعد عبر الدولية بالطبيعة المعيارية وبقوة الإلزام الذاتية أصبح يتيح للمحكم إمكانية تطبيقها تطبيقا مباشرا على المنازعات العقدية المطروحة أمامه، وذلك دون الحاجة لإعمال منهج التنازع وقواعد الإسناد( ). والملاحظ أن المنهج المباشر قد جاء متفقا إلى حدّ كبير مع متطلبات التجارة الدولية التي تحتاج لتطورها توافر عامل السرعة البعيد عن التعقيد من ناحية، وإلى قواعد ملائمة جاءت في الأصل لتنطبق على الروابط العقدية السارية في نطاقها من ناحية ثانية. وعليه وقبل إبراز أهمية هذا المنهج أمام قضاء التحكيم، سنتعرض أولا لمفهومه وذلك فيما يلي: أولا-مفهوم المنهج المباشر: يعدّ هذا المنهج من أحدث الاتجاهات في تحديد القواعد القانونية واجبة التطبيق على عقود التجارة الدولية أمام قضاء التحكيم، ومن دون الرجوع إلى قواعد الإسناد أيا كان مصدرها. ويعتقد الفقه السائد أن أول نص تبنى نظرية المنهج المباشر هو نص المادة 1496 من قانون المرافعات المدنية الفرنسي، والذي يقضي بأنه: "يفصل المحكم في المنازعة وفق للقواعد القانونية المختارة من قبل الأطراف، وفي حالة تخلف هذا الاختيار وفقا للقواعد التي يقدر أنه من الملائم إعمالها. ويراعي المحكم في جميع الأحوال الأعراف التجارية"( ). وقد اعتبر الفقه أن النص المذكور يعدّ تبنيا من طرف المشرع الفرنسي للمنهج المباشر، حيث لم يكتف بإقرار القاعدة العامة المعمول بها في النظم القانونية، والمتمثلة في حرية الأطراف في اختيار قانون العقد، بل تعداه إلى منح المحكم سلطة تطبيق القواعد القانونية تطبيقا مباشرا، وذلك من دون الرجوع إلى إعمال منهج قاعدة الإسناد( ). ولقد كان للنص الفرنسي تأثير كبير في العديد من النظم القانونية الوطنية، والتي تبنت هي الأخرى المنهج المباشر عند إعمال القواعد القانونية واجبة التطبيق أمام قضاء التحكيم، ومن ذلك المادة 944 من قانون المرافعات المدنية لإقليم كيبك بكندا، والمادة 26 من القانون الإسباني الصادر بتاريخ 05/12/1988ن والمادة 1054 من قانون المرافعات المدنية الهولندي( ). وفي نفس المنحى اتجهت أيضا قواعد التحكيم لدى غرفة التجارة الدولية بعد التعديل الذي أصبح ساريا ابتداءا من تاريخ 01/01/1998، حيث أصبحت تنص الفقرة الأولى من المادة 17 على أنه: "للأطراف حرية الاتفاق على القواعد القانونية الواجب على المحكم تطبيقها على موضوع النزاع، فإذا لم يوجد مثل ذلك الاتفاق طبقت هيئة التحكيم القواعد القانونية التي تراها ملائمة في هذا الخصوص"، وذلك بعد أن كانت المادة 13/03 تنص على أنه : "للأطراف حرية تحديد القانون الواجب على المحكم تطبيقه على موضوع النزاع، فإذا لم يحدده الأطراف طبق المحكم القانون الذي تحدده قاعدة التنازع التي يراها المحكم ملائمة في هذا الخصوص". ولاشك أن غرفة التجارة الدولية بباريس ليست هي جهة التحكيم الوحيدة التي تبنت المنهج المباشر عند تطبيق القواعد عبر الدولية، فقد أخذت به هيئات تحكيم دائمة أخرى، كما هو الحال بالنسبة لغرفة التجارة والصناعة الفرنسية الألمانية( )، ومعهد التحكيم الهولندي( )، والجمعية الإيطالية للتحكيم( ). ويتجه بعض الفقه إلى أن تطبيق القواعد عبر الدولية مرهون بالحالات التي يتخلف فيها الأطراف عن تعيين القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع( )، إلا أنّ الواقع العملي يثبت عدم صحة هذا الاتجاه، ذلك أن لجوء المحكم إلى تطبيق تلك القواعد غير متوقف في جميع الحالات على وجوب ذلك التعيين، وفي حالات كثيرة يكون تطبيقها حتميا من أجل تكملة النقص المحتمل في القوانين الوطنية( )، أو لتعديل أحكام هذه الأخيرة حتى لا تتعارض مع مقتضيات التجارة الدولية( ). إن تطبيق القواعد عبر الدولية أمام هيئات التحكيم بإعمال المنهج المباشر لا يحتاج إلى اختيار المتعاقدين له، بل بالإمكان تطبيقها حتى في حالة سكوت هؤلاء عن اختيار القواعد القانونية واجبة التطبيق، وذلك بمجرد تعلق النزاع بعقد من عقود التجارة الدولية، لأن التنظيم الموضوعي والمباشر الذي يتضمنه هذا المنهج يجعل منه منهجا مستقلا عن قواعد التنازع، إضافة إلى كونه منهجا يتضمن قواعد غير وطنية أعدت خصيصا لتنطبق على هذه العقود، وهو ما يحدّ في النهاية من مشكلة تنازع تطبيق القواعد القانونية الوطنية من حيث المكان( ). وإذا كان قضاء التحكيم قد أقر ضرورة التطبيق المباشر للقواعد عبر الدولية على المنازعات العقدية التي طرحت أمامه عند سكوت الإرادة عن ذلك الاختيار، على اعتبار أنها الأكثر ملاءمة لمقتضيات التجارة الدولية، فإن نفس الاعتبار هو الذي سمح له أيضا بتطبيقها حتى في الحالات التي يختار فيها الأطراف قانونا داخليا لينطبق على عقدهم( ). ذلك أنه وفي حالة اختيار المتعاقدين تطبيق أحد القوانين الوطنية على النزاع الواقع بينهم، سيجد المحكم نفسه بين اعتبارين، يتمثل الأول في ضرورة احترام إرادة المتعاقدين والتي استمد منها اختصاصه القضائي، بينما يتمثل الاعتبار الثاني في الإرادة الجماعية لمجتمع التجار الدولي والذي ينتمي إليه المحكم، فيرجح الاعتبار الأخير ويتولى تطبيق القواعد عبر الدولية تطبيقا مباشرا( ). وعادة ما يميل المحكم إلى هذا النهج ويتجاهل القانون الداخلي الذي اختاره المتعاقدون، عندما يرى بأن القانون المختار يتعارض مع المصالح الجوهرية للمتعاملين في مجال التجارة الدولية مما يدفعه إلى إخضاع الرابطة العقدية للأعراف والمبادئ السائدة في مجتمع التجار إخضاعا مباشرا، ومن دون التقيد بالقوانين ا
| |
|