مثال لتحليل و مناقشة نص فلسفي(ذ.عبد الخالق العزيزي):
النص :
"إﻥ ﺍﻟﻤﻌﻴﺎﺭ ﺍﻟﻐﺎﻟﺐ ﻟﻠﺤﻜﻢ ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﺍﻟﺸﺨﺺ ﻫُﻮَ ﻫُﻮَ، ﻛﻤﺎ ﻳﺮﻯ ﺍﻟﺤﺲ ﺍﻟﻌﺎﻡ، ﻫﻮ ﺍﺳﺘﻤﺮﺍﺭﻳﺔ ﺍﻟﺠﺴﺪ ﺍﻟﻤﺎﺩﻳﺔ ﻋﺒﺮ ﺍﻟﺰﻣﻦ، ﻭﻫﻮ ﺍﻟﻤﻌﻴﺎﺭ ﻧﻔﺴــﻪ ﺍﻟــﺬﻱ ﻧﺴﺘﺨﺪﻣﻪ ﻟﻠﺤﻜـﻢ ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﺍﻟﺪﺭﺍﺟﺎﺕ ﺍﻟﻬﻮﺍﺋﻴﺔ ﺃﻭ ﻏﻴﺮﻫﺎ ﻫﻲ ﻧﻔﺴُﻬﺎ ﺩﻭﻥ ﺳﻮﺍﻫﺎ. ﺃﻣﺎ ﺇﺫﺍ ﺗﺤﺪﺛﻨﺎ ﺑﺨﻼﻑ ﺫﻟﻚ، ﻓﺈﻥ ﺣﺪﻳﺜﻨﺎ ﺳﻴﻜﻮﻥ ﻋﻠﻰ ﺳﺒﻴﻞ ﺍﻻﺳﺘﻌﺎﺭﺓ (ﻛﺄﻥ ﺃﻗﻮﻝ ﻣﺜﻼ ﺃﻧﺎ ﺇﻧﺴﺎﻥ ﺟﺪﻳﺪ)، ﻓﻠﻮ ﺻَﺢَّ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺑﻮﺳﻌﻲ ﺍﻟﺘﻔﻮﻩ ﺑﻪ. ﻭﺣﻘﻴﻘﺔً ﺃﻧﻨﺎ ﻧﺸﻌﺮ ﺃﻥ ﻫﻮﻳﺘﻨﺎ ﺍﻟﺠﺴﺪﻳﺔ ﻋﺒﺮ ﺍﻟﺰﻣﻦ ﺃﻣﺮ ﻣﻌﻘﺪ ﻭﺃﻧـﻬﺎ ﺗﺘﺄﻛـــﺪ ﻣــﻦ ﺧﻼﻝ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﺍﻟﺪﺍﺧﻠﻴﺔ ﺑﻤﺎﺿﻴﻨﺎ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺄﺗﻲ ﺑﻬﺎ ﺍﻟﺬﺍﻛﺮﺓ. ﻳﺠﺐ ﺃﻻ ﻳُﺜﻴﺮ ﺩﻫﺸﺘَﻨﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻹﻃﻼﻕ ﻛﻮﻥ ﺍﻟﺬﺍﻛﺮﺓ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺗﺘﺼﻞ ﺑﺎﻟﻀﺮﻭﺭﺓ ﺑﺄﺩﻣﻐﺘﻨﺎ ﻭﺑﺄﺟﺴﺎﺩﻧﺎ. ﻭﺇﺫﺍ ﻛﺎﻧﺖ ﺫﻛﺮﻯ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ ﻗــﺪ ﺳﺒﺒﻬﺎ ﻣﺎ ﺣَﺪَﺙَ ﻟﻨﺎ، ﺃﻱ ﻣﺎ ﺣﺪﺙ ﻷﺟﺴﺎﺩﻧﺎ ﻭﺃﺩﻣﻐﺘﻨﺎ، ﻓﻤﻦ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﻤﺪﻫﺶ ﺃﻥ ﺍﺳﺘﻤﺮﺍﺭﻳﺔ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﺟﺴﺎﺩ ﻋﺒﺮ ﺍﻟﺰﻣﻦ ﻳﺠﺐ ﻓﻲ ﺑﻌﺾ ﺍﻷﺣﻴﺎﻥ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﻗﻞ، ﺃﻥ ﻳﺘﺄﻛﺪ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﻣﻌﻴﺎﺭ ﺍﻟﺬﺍﻛﺮﺓ.»
ﺣﻠﻞ ﺍﻟﻨﺺ ﻭﻧﺎﻗﺸﻪ
مقدمة :
من خلال المفاهيم الأساسية التي يتضمنها النص المطروح للتحليل و المناقشة ( الشخص ، الهوية ، الجسد ، الذاكـــرة ) يتبين أنـه ينـدرج بشكـل عـام ضـمــن المــجال الإشكالي للوضع البشري ، و هو مجال يتميز بتعدد أبعاده و تكاملها ، منها ما هو ذاتـي يتعلق بالشخص و ماهو تفاعلي يرتبط بالعلاقة مع الغير و ماهــو تاريخي يخص العلاقة مع الزمن . و بشكل خاص ، فإن النص الذي بين أيدينا يتأطر ضمــن الشخص كمفـــهوم مركزي حيث يتطرق بالتحديد الى قضية الهوية الشخصية . و تطرح هذه القضـية علــى المستوى الفلسفي مجموعة من الإحراجات و المفارقات أبرزها ان كل شخص ينظر الى نفسه باعتباره هو هو نفس الشخص في كل الأزمنة و الأمكنة لكنه يعرف في نفس الوقت تغيرات مختلفة جسمية و نفسية و فكرية كما انه يوجد اولا كجسد له حاجات بيولوجية و في نفس الأن يوجد كذات واعية .... و من هذه المفارقات يمكن طـرح التساؤل المركــزي التالي : من أين يستمد الشخص هويته ؟ و منه تتولد الأسئلة الفرعـــية التــالية : ما دور الجسد في تحديد هوية الشخص ؟ و هل يمكن القول ان هذه الهوية تتاسس على الذاكرة ؟ ، أليست هناك أسس أخرى للهوية الشخصية ؟
تحليل :
جوابا على الإشكالية المطروحة سابقا ، يقدم صاحب النص أطروحة مفادها أن معيار تحديد الهوية لا يقوم على الجسد فقط ، بل يتم أيضا من خلال الذاكرة . و هذا يعني أن المعرفة الداخلية بالماضي ، و التي تمدنا بها الذاكرة ، تعتبــر ضروريــة للتأكــد مــــن استمرارية الهوية عبر الزمن .
لبناء أطروحته ، وظف الكاتب مجموعة من المفاهيم أبرزها : الشخص ، الهوية ، الجسد و الذاكرة . و يدل الشخص كمفهوم فلسفي على الإنسان كذات واعية مفكرة و قادرة على تحمل مسؤولية أفعالها أخلاقيا و قانونيا ، أما الهوية فهي وعي الذات بمطابقتها لذاتها و وحدتها و استمراريتها عبر الزمن و تميزها عن غيرها ، فالهوية اذن وحدة و اختلاف . و يحيل الجسد على الجانب المادي البيولوجي في الإنسان و هو الجانب الــذي يتضـمن الحاجات الفطرية و الحواس و الوظائف الفيزيولوجية ، و أخيرا فإن الذاكرة هي القدرة العقلية على استحضار الماضي و تخزين المعارف و التجارب ، و تدل حسب سياقها في النص على المعرفة الداخلية بالماضي .
لكي يدافع صاحب النص عن أطروحته ، اعتمد بنية حجاجية أساسها الدحض و الشرح و التمثيل ، حيث انطلق من تصور عامة الناس الذي يربط هوية الشخــص باستمراريــة الجسد عبر الزمن ، ثم انتقل الى دحض هذا التصور و إثـبات محدوديتــته مقـــدما مثــالا ملموسا و توضيحيا يتمثل في الدراجة الهوائية التي يستخدم فيها المعيار المادي للحكــم على أنها هي نفسها دون سواها و مبرزا أن الحديث عن إنسان جديد هو مجــرد حـــديث استعاري و ليس حقيقيا و موضحا أن الجسد وحده لا يكفي لتحديد الهويـــة لأن الهويــة الجسدية نفسها تحتاج الى الذاكرة ، و استمرارية الأجساد عبـــر الزمن لا تتأكد إلا مـــن خلال المعرفة الداخلية بالماضي التي تتم بواسطة الذاكرة .
مناقشة :
تكمن الأهمية الفلسفية لهذا النص في إبرازه لبعد أساسي من أبعاد الهوية الشخصية ، يتعلق الامر بالذاكرة التي يدرك الشخص بفضلها انه وحدة ثابتة عبر الزمن ، ترى إلى أي حد يمكن الاتفاق مع هذا الموقـف ؟ و الى أي حـــد يعتبر كافيا للإحاطــة بالإشكاليــة المطروحة من جميع جوانبها ؟
في نفس الاتجاه ، نجد في فلسفة "جون لوك" بعض ما يدعم أطروحة النص . إذ يـــرى هذا الفيلسوف التجريبي ان الوعي كلما امتد الى الأفكار و الأحداث الماضية كلما امتدت الهوية الشخصية ( تتمة موقف جون لوك) .
و من زاوية مغايرة ، ينتقد "شوبنهاور" التصور الذي يؤسس الهوية على الذاكرة لانها في نظره معرضة للضياع بفعل المرض او التقدم في السن ، و بالمقابل يعتبـر أن الإرادة هي أساس هوية الشخص ( تتمة موقف شوبنهاور ) .
إذا كان صاحب النص و "جــتون لوك" يعتبران الذاكــرة أســاس الهويــة ، و إذا كــان " شوبنهاور" يعتبر الإرادة هي الأساس ، ألا يمكن القول ان التفكير بدوره يحدد هويــة الشخص خصوصا و ان الإنسان طالما تم تعريفه على أنه كائن عاقل؟
في هذا الإطار يؤكد الفيلسوف العقلاني "ديكارت" أن ......( موقف ديكارت) .
رغم اختلاف المواقف السابقة في العنصر المحدد لهوية الشخص ، فإنها تنتهي الى النظر الى هذه الهوية في وحدتها و ثباتها رغم تقلبات الزمن و اختلاف المكان . و هنا يجدر بنا ان نتساءل : ألا يمكن الحديث عن هوية متحولة و متعددة ؟
جوابا على هذا السؤال ، نجد مجموعة من الاتجاهات في العلوم الإنسانيـة نظــرت الــى الهوية في تعددها و ديناميتها ، و كمثال على ذلك يمكن استحضار نظرية التحليل النفسي لمؤسسها " فرويد" الذي اعتبر ان الهوة مرتبطة بتفاعل و تحولات العلاقة بيــن أقســـام الجهاز النفسي ( الهو ، الأنا ، الأنا الأعلى) ................
خاتمة :
انطلاقا من معطيات تحليلنا و مناقشتنا لهذا النص ، و بالعــودة إلـى الإشكاليــة المنطـلق منها ، يتبين لنا ان موضوع الهوية الشخصية قد أفضى إلى مواقف متباينــة ، منـها مـــا يؤسسها على الذاكرة ( صاحب النص و جون لوك) ، و منـها مــا يؤسسـها علـى الإرادة ( شوبنهاور) أو الفكر المجرد ( ديكارت) . و لعل هذه العناصر مجتمعة تلعب دورا مهما في تحديد هوية الشخص . لكن ماذا عن الغير ؟ ألا يمكن بدوره أن يساهم في وعي الذات بذاتها و بهويتها ؟ .