الخطبة الأولى.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فضائل العشر الأواخر من رمضان
فهاهي عشركم -يا عباد الله- قد حضرت، وهاهو ثلث الشهر الأخير قد بدأ، وهذا موسم المتسابقين، وسوق العابدين، وفرصة المجتهدين، هذه العشر التي كان نبيكم صلى الله عليه وسلم يشد مئزره إذا دخلت، ويعتزل النساء للعبادة؛ لأنه كان يعتكف في المسجد وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِالبقرة:187، وأحيا ليله، وأيقظ أهله، وهذا فيه اهتمام بالأهل والأولاد، وليس أن يجتهد الأب، والبقية نائمون، وإنما هو اجتهاد واستنفار عام في البيت لهذا الحدث الكبير الذي وقع، وهو دخول هذه العشر، ومن الناس من لم يدركها؛ لأن الله تعالى كتبه في الأموات.
عباد الله:
في هذه العشر فضل عظيم؛ لأن أحد لياليها هي ليلة القدر التي قال الله تعالى فيها: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍالدخان:4، فأنزل الله فيها القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك مفصلاً، ومنجماً، ومفرقاً بحسب الوقائع والأحداث، وقال: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِالقدر:1، فهي ليلة ذات قدر، وشرف، ومنزلة، وذات خير، وبركة، وعظمة، وذات رحمة، ومغفرة، وعتق، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن هذا الشهر قد حضركم،وفيه ليلة خير من ألف شهر من حُرمها فقد حُرم الخير كله، ولا يُحرم خيرها إلا محروم) ، وهذه الليلة العظيمة؛ العبادة فيها أفضل من العبادة في ألف شهر، وهو عُمر إنسان مُعمَّر، أكثر من ثلاث وثمانين سنة.
فضائل ليلة القدر
فمن فضائل هذه الأمة أن الله أعطاها في كل سنة، في كل رمضان، في هذه العشر يوماً فيه ليلة العبادة فيها تفوق العبادة في ثلاث وثمانين سنة، فعندك يا عبد الله في كل ليلة قدر من كل سنة تمر بك في عمرك عبادة إنسان مُعمَّر بهذه السنوات الطويلة؛ كأنك عبدت الله في ثلاث وثمانين سنة، كل سنة من السنوات، فتأمل فضل الله على هذه الأمة، وهو سبحانه وتعالى ذو الفضل العظيم.
في هذه السنة تنقل مقادير الخلائق من الأرزاق، والآجال من اللوح المحفوظ، إلى صحف الملائكة، تفصل المقادير من اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه الأقدار قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وفي ليلة القدر من كل عام تفصل أقدار كل سنة من اللوح المحفوظ إلى صحف الملائكة لتقوم بإنفاذها، فترى شخصاً يمشي في الأرض وهو مكتوب في هذه السنة من الأموات.
عباد الله:
ما يقدر الله كل سنة من خير، ورزق، وصحة، ومرض، وحياة، وموت، وولد، ونحو ذلك من الأقدار كله في هذه الليلة ينقل إلى صحف الملائكة فهنيئاً لمن أصاب ليلة القدر فسأل الله خيره، وسأل الله فضله، قال الإمام النووي رحمه الله: ليلة القدر مختصة بهذه الأمة زادها الله شرفاً فلم تكن لمن قبلها، ما أدركها داع إلا وظفر، ولا سأل فيها سائل إلا أعطي، ولا استجار فيها مستجير إلا أجير.
كان السلف رحمهم الله يستحبون الإكثار من الدعاء تلك الليلة، وقال الشافعي رحمه الله: "أستحب أن يكون اجتهاده في نهارها كاجتهاده في ليلها".
علامات ليلة القدر والحكمة من إخفائها
هذه الليلة سمحة، طلقة، بلجة، منيرة، معتدلة، تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها، سالمة من الشيطان والعذاب،سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِالقدر:5، تتنزل الملائكة فيها إلى الأرض أكثر مما تتنزل في بقية أيام السنة حتى تكون في هذه الليلة أكثر من عدد الحصى على هذه الأرض، يكثر فيها من قول: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني"، ومن قامها إيماناً بثوابها، وفضلها، واحتساباً للأجر الوارد فيها؛ غفر له ما تقدم من ذنبه، فيجمع العبد بين التصديق بالوعد، والطلب للأجر ليحصل له هذا، فالأعمال الصالحة لا تقبل إلا مع الاحتساب، وصدق النيات.
وهذه الليلة من الليالي ينبغي أن تتحرى، وقد أخفاها الله تعالى لنجتهد في العبادة في كل ليالي العشر، لعل العبد أن يصيبها، فمما ينافي الحكمة الإلهية في إخفاء ليلة القدر، جزم بعض الناس في رسائل الجوالات بأنها ليلة كذا، فيصيب بعض الناس من الإحباط ما يصيبهم، ويقعد بعضهم عن العبادة فيما بقي، والاجتهاد لأجل رأي أطلقها شخص في رسالة، فإذا كان الشرع أخفاها فأنت تسير مع مراد الشرع في الإخفاء؛ لأن العبد إذا وافق حكمة ربه، فتأمل ماذا يريد الله من وراء هذه الأوامر، والنواهي، والنصوص، والتشريعات، فسار على وفق مراد الله، وحقق حكمة الله، فإنه من أولي الأبصار والألباب، وكذلك يكون من الأخيار الذين أراد الله بهم خيراً بالفقه في دينه.
ما يفعل في ليلة القدر
ومن أشهر ما يفعل في هذه الليلة: القيام، وقد اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم العشر الأواخر كلها لإصابة ليلة القدر؛ لأن من اعتكف العشر الأواخر، وقام في كل ليلة منها وهو يدعو فإنه بالتأكيد سيصيبها، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم حتى تتورم قدماه كما قال الله: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَالذاريات:17، وكان السلف يسيرون على هذا المنوال، يقومون ليلهم، ويخفون دعائهم، إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّامريم:3، وكان ظمأ الهواجر، يعني: العطش في الصيام لأجل حر النهار، وألم الأرجل في الليل من طول القيام هو أشهى ما عند العابدين، والذي يرغبهم في البقاء في الدنيا، وليس كثرة الأموال، ولا السعي في الاستثمارات، ولا الضرب في السياحات، وإنما هو ظمأ الهواجر، وقيام الليل، ومن أطال قيام الليل هون الله عليه وقوف يوم القيامة كما قال الأوزاعي رحمه الله؛ لأن يوم الدين فيه وقفة طويلة جداً؛ لأنه في الطول خمسين ألف سنة، الناس واقفون على أقدامهم، لا قاعد، ولا مضطجع، ولا متكئ، وإنما هم قيام كما قال الله: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَالمطففين:6، ويشتد الحر على الناس لأمور ثلاثة: الزحام، فليس للإنسان إلا موضع قدميه، ودنو الشمس قدر ميل من رؤوس العباد، وتقريب جهنم وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَالفجر:23، تجرها الملائكة، فيأخذ الناس من العرق والكرب ما الله به عليم، ويذهبون يطوفون على الأنبياء ليطلبوا منهم التدخل عند الله لفصل القضاء، فينالها الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم صاحب المقام المحمود.
عباد الله:
من طال قيامه اليوم هون الله عليه القيام غداً، ومن مشى إلى المساجد في الظلمات في العشاء والفجر فله النور التام، (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)، ويدخل فيه مشيهم اليوم لصلاة التراويح قياماً بالليل لله تعالى، كان صفوان بن سليم يصلي في الشتاء على السطح، وفي الصيف في بطن البيت يتيقظ بالحر والبرد حتى يصبح، وترم رجلاه، ويظهر فيه عروق خضر، قالت بنت لجار منصور بن المعتمر، لأبيها: يا أبتِ أين الخشبة التي كانت في سطح منصور قائمة؟، فقال: يا بنيه ذاك منصور نفسه كان يقوم الليل، فلما مات اختفت الخشبة في نظر البنت، وكان ابن أبي ذئب يصلي الليل ويجتهد فيقول له بعض أهله: ارفق بنفسك، فيقول: إن القيامة تقوم غداً كأن القيامة تقوم غداً، هكذا كانوا يجتهدون، يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُالإسراء:57، وكانوا لا يقطعون هذه العادة لا في حضر، ولا في سفر، حتى يقطعهم الموت، وكذلك كان بعضهم يحرس أصحابه في السفر إذا ناموا في الليل وهو قائم لله تعالى، وكان بعضهم يتهجد طويلاً فإذا نعس هز رأسه يطرد النعاس، ويناجون الله تعالى، يصلون الليل، ويستغفرون بالأسحار كما قال عز وجل، والاستغفار عبادة عظيمة، ويندب الإكثار منه في السحر، وهو قبيل الفجر، ومنه أخذ واشتق اسم السحور، ومن أي شيء يستغفرون وقد كانوا يعبدون؟ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَالذاريات:18؛ لأن المؤمن دائماً يرى نفسه مقصراً، وقد لا يقبل منه، فهو يستغفر من التقصير، ويرجو القبول.
أهمية تدبر القرآن
وهكذا كانوا يتدبرون القرآن، فهذه الليالي التي يطول فيها القيام فيها قراءة كثيرة للقرآن، وكذلك في نهارها من المصحف، وفي الفرائضوَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًاالمزمل:4، ما هو الترتيل؟ هو الترسل في القراءة، والتأني فيها، فإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بموضع عذاب تعوذ، ألم يقل نبينا عليه الصلاة والسلام: (لقد نزلت الليلة عليّ آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِآل عمران:190، فهلا كان التفكر في آيات الله المنثورة والمسطورة، وما جعل في السماء وفي الأرض، وفي تعاقب هذا الليل والنهار، وهكذا من تدبر القرآن في قصصه، ووعده، ووعيده، مفتاح العلوم، وزاد المعارف، تستخرج منه الخيرات، ويعرف به الرب المعبود، وصفات الكمال، والطريق الموصل إلى الله، وفيه الحلال والحرام، ومعرفة الأحكام، وفهم المعاني مطلوب، والعمل بها هو المرغوب، ومن لم تكن له همة حافظة لم يكن من أهل العلم والدين.
تدبره بحفظ حروفه، وحفظ حدوده، وهكذا يتأمل الإنسان بناء على التفسير، ولذلك كان التفسير في غاية الأهمية، قال بعض السلف: "لئن أقرأ في ليلتي حتى أصبح، بـ إذا زلزلت والقارعة لا أزيد عليهما، وأتفكر فيهما، أحب إليَّ من أن أهذ القرآن هذاً"، وقال رجل لابن المبارك: قرأت البارحة القرآن في ركعة، قال: لكني أعرف رجلاً لم يزل البارحة يكرر ألهاكم التكاثر إلى الصبح، ما قدر أن يتجاوزها، يعني نفسه، وهكذا لما بدأ بعض أهل العلم مجلس التفسير بقوله تعالى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَاالأعراف:56، جعل يردد الأرض أصلحها الله فأفسدها هؤلاء، الأرض أصلحها الله فأفسدها هؤلاء، أفسدوها بالكبائر والذنوب والمعاصي إلى التلوث وما بينهما من الدرجات الكثيرة من أنواع الإفساد في الأرض بالفواحش، وأنواع الربا، وغير ذلك، يتأمل في قوله تعالى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَاالأعراف:56، فجعلها الله صالحة مهيأة للآدميين ليس فيها حرام، ولا تلوث، بل لما خلقها الله فيها من أنواع البركات، والخيرات، فجاء هؤلاء فأفسدوها.
كانت قراءة الفضيل حزينة، شهية، بطيئة، مترسلة، كأنما يخاطب إنساناً، إذا مر بآية فيها ذكر الجنة يرددها ويسأل، وهكذا الذي لا يعرف تفسير القرآن ربما دخل فيما عابه الله وذمه من قوله:وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّالبقرة:78، قيل: الأماني مجرد قراءة الحروف والكلمات، أما المعاني فلا حظ لهم فيها، وليس شيء أنفع للقلب من تدبر الآيات، وهذا الذي يسهل الوقوف وراء الإمام، فكثير من الناس يتألم من طول الوقوف؛ لأنه لا يفقه ما يسمع، ولو فقه وتدبر، وتدخل في معاني الآيات لسهل عليه القيام، وهكذا يتدبر الإنسان في التقديم والتأخير، كما في قوله: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَالشورى:49، فقدم الإناث رداً على ما كانت تفعله أهل الجاهلية من احتقار البنات حتى دفنوهن أحياء، ونكر الإناث وعرف الذكور يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًاالشورى:49، ولم يقل الإناث، وقال: وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَالشورى:49، ولم يقل ذكوراً، جبر نقص الأنوثة بالتقديم، وجبر نقص تأخير الذكور بالتعريف، وهكذا يتدبر في قوله: وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍالأنعام:99، فلماذا قال مشتبهاً ولم يقل متشابه؟ وقال وغير متشابه ولم يقل مشتبه؟ وفي الآية الأخرى قال: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍالأنعام:141، فما المعنى؟ وما المراد؟ ولماذا قال:فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًاالكهف:97، وزيادة التاء تفيد الزيادة في المعنى، فالنقب أصعب، وما اسطاعوا بلا تاء أن يظهروه؛ لأن الظهور والعلو عليه أقل صعوبة، وهكذا يفكر ويتدبر، قال إبراهيم الخليل: اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًاإبراهيم:35، وفي آية أخرى: اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًاالبقرة:126، فلماذا كانت أل هنا، ولم تكن هناك، والسبب أن قوله: اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًاالبقرة:126، قبل أن تنشأ مكة أول ما وضعهم، ولما رجع ورأى مكة نشأت دعا مرة أخرى وقال: اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًاإبراهيم:35، وهكذا يتمعن الإنسان، ويتدبر في التهديد والوعيد، وهذا الذي يؤدي بالإنسان للتلذذ بالقرآن.
اللهم اجعلنا من أهل القرآن، اللهم اجعلنا ممن يقيمه يا رب العالمين، ارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار كما تحب وترضى، اللهم فقهنا في كتابك، واجعلنا به عالمين، ولا تحرمنا خيره، وبركته يا رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ولي الصالحين، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله ونبيه الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
الاعتكاف وأحكامه
عباد الله:
إن من العبادات العظيمة في شهرنا هذا، وفي عشرنا هذه؛ الاعتكاف، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في هذه العشر، والاعتكاف فيها له فضل عظيم، فإن فيه إصابة سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك فإن في الاعتكاف تفريغ القلب، فإنه ترك الخلائق والتفرغ لعبادة الخالق، وفي هذا الاعتكاف إحياء للسنة، وقد قال الله تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِالبقرة:187، فيشرع في أي مسجد، وأعظمه المسجد الحرام، نسأل الله عز وجل أن يمكن المسلمين متى أرادوا في أي وقت، وفي أي رمضان، ومن أي مكان أن يعتكفوا في المسجد الأقصى.
عباد الله:
هذا الاعتكاف فيه الصلوات الخمس، وهو مبكر إليها تلقائياً باعتكافه، وكذلك فيه إدراك تكبيرة الإحرام دائماً؛ لأنه متفرغ لذلك، وأيضاً فيه تلاوة القرآن داخل الصلاة، وخارج الصلاة، وفيه أيضاً التفكر، والتدبر، والتأمل، وفيه محاسبة النفس، والتفكير في عيوبها، والتوبة، وفيه التركيز للاستعداد ليوم الرحيل، وإعداد العدة، ولذلك يقلل الإنسان فيه من الزيادة في النوم، أو الأكل، أو مخالطة الناس، وإذا حصل له رفيق يراجع معه القرآن فهو طيب، وقد تدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن مع جبريل.
والاعتكاف كما قال بعض العلماء: ليس له مدة معينة فيشرع لأي مدة، وقال بعضهم: أقله ليلة، من المغرب إلى الفجر، وقال بعضهم: أقله يوم وليلة أربعة وعشرين ساعة.
والمعتكف لا يخرج لزيارة مريض، ولا لإتباع جنازة؛ لأن المقصود حبس النفس داخل المسجد لطاعة الله تعالى، وله أن يخرج لما لابد له منه كقضاء الحاجة، وغسل الجنابة إذا احتلم مثلاً، ومن طعام إذا لم يوجد من يجلبه له، وليس من الاعتكاف أن ينقل جهاز المحمول بما فيه إلى المسجد، والجوال بما فيه أيضاً، وإنما يقتصر في استعمالها على ما لابد منه؛ كتفقد الأهل في البيت، ويشترط فيه أن لا يضيع عملاً، ولا وظيفة؛ لأنه يأخذ عليها أجراً وهي أمانة، ولا يضيع أهله وأولاده، والمرأة لابد أن تستأذن زوجها، ولا تضيع أولادها، وأن يكون المكان مأموناً لها، وكذلك أن لا تكون حائضاً ولا نفساء.
وهذا الاعتكاف إذا صار بنية صالحة استفاد منه الإنسان جداً، وجدد إيمانه، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يفعله لإصابة ليلة القدر، فإنه إذا اعتكف أصابها، وإذا لم يتسن لك يا عبد الله إلا أن تعتكف مدة ولو قصرت؛ فافعل ذلك، وبعض الناس ينويه قبل دخوله لصلاة العشاء، ويخرج للسحور مثلاً، وهذا يصح عند بعض العلماء، والإنسان لا يحرم نفسه من أي شيء من الأجر، وكلما طال مكثه في المسجد فهو خير وبركة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام ذكر لنا حال الرجل المعلق قلبه بالمسجد، وجعله من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
نسأل الله سبحانه وتعالى بمنه وكرمه أن يرزقنا إصابة ليلة القدر، اللهم لا تحرمنا أجرها، ولا تحرمنا فضلها، ولا تحرمنا خيرها، اللهم اكتب لنا فيها أوسع الحظ من الرزق والنصيب، بارك لنا فيما آتيتنا، واجعلنا من أهل كتابك يا رحمن، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، اللهم لا تفرق هذا الجمع في هذا البيت المبارك إلا بذنب مغفور، وعمل مبرور، وسعي متقبل مشكور يا رحيم يا غفور، اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات يا سميع الدعوات، اللهم اجعلنا ممن أصاب فضل رمضان، اللهم إنا نسألك أن تخرجنا منه كيوم ولدتنا أمهاتنا، اللهم إنا نسألك في ساعتنا هذه رحمة تلم بها شعثنا، وتغني بها فقرنا، وتجبر بها كسرنا، وتقضي بها ديننا، وتشفي بها مريضنا، وترحم بها ميتنا، وتهدي بها ضالنا، يا رب العالمين يا سميع الدعاء يا رحيم يا غفور، اللهم صل على نبيك محمد ما تعاقب الليل والنهار، اللهم صل على سيدنا محمد واجعله شفيعاً لنا يوم الدين لا تحرمنا شفاعته، ولا تحرمنا الشرب من حوضه يا أرحم الراحمين، ولا تحرمنا ملاقاته في جنات النعيم، اللهم أحسن خاتمتنا، اللهم أحسن خاتمتنا، اللهم أحسن خاتمتنا، وقنا خزي الدنيا وعذاب الآخرة، أصلح نياتنا وذرياتنا، وهب لنا من لدنك ذرية طيبة يا سميع الدعاء، واجعلنا للمتقين إماماً، واصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً، واجعلنا ممن يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب، وارزقنا الفردوس الأعلى يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
1 - رواه ابن ماجه1644، وحسنه الألباني في صحيح الجامع 2247.
2 - رواه الترمذي 223 وصححه الألباني في الجامع الصغير2823.
3 - رواه ابن حبان في صحيحه 620 وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 68.
[size=35]
[/size]
[size=35]
[/size]