قال رحمه الله تعالى في شرحه لمنظومته (منظومة أصول الفقه وقواعده): النفيُ للوجودِ ثم الصحهْ ثم الكمالِ فارْعَيَنَّ الرُّتْبَهْ : هذه القاعدة توضح أن الأصل في النفي نفي الوجود، فإن تعذر بأن كان الشيء موجودًا، فهو نفي للصحة، ونفي الصحة في الواقع نفي للوجود الشرعي؛ لأن نفي الصحة يعني نفي الاعتداد به شرعًا، وما لم يعتد به فهو كالمعدوم. فإذا كان لا يمكن نفي الصحة، بأن كان صحيحًا مع النفي، فهو نفي للكمال.
فقوله: (والنفي للوجود) يعني إذا ورد النفي على شيء فإنه نفي لوجوده (ثم الصحة) ثم: للترتيب يعني إذا لم يمكن نفي الوجود بأن كان المنفي موجودًا فالنفي للصحة (ثم الكمال) يعني إذا لم يمكن نفي الصحة بأن دل الدليل على أن المنفي صحيح كان النفي نفيًا للكمال.
قوله: (فارْعَيَنَّ الرتبة) ارعين: فعل أمر من المراعاة مؤكد بنون التوكيد، يعني أنك تبدأ أولًا بحمل النفي على نفي الوجود ثم بحمله على نفي الصحة ثم بحمله على نفي الكمال.
ـ إذا قلت: لا خالق إلا الله، فهذا نفي للوجود لأنه ليس هناك أحد يخلق إلا الله عَزَّ وجل، حتى المشركون الذين أنكروا توحيد العبادة أقرُّوا بأن الله هو الخالق.
ـ لا صلاة إلا بوضوء هذا نفي للصحة؛ لأن الإنسان قد يؤدي أفعال الصلاة بلا وضوء فيكون النفي نفيًا للصحة؛ لكن لو أن أحدًا ادعى أنه لنفي الكمال وقال: المعنى: لا صلاة كاملة، قلنا له: لا نحمله على نفي الكمال حتى يتعذر حمله على نفي الصحة.
ـ «لا صلاة بحضرة طعام»[1] هذا نفي للكمال؛ لأن الصلاة موجودة والصحة ثابتة، لأننا نعلم أن هذا الرجل أتى بالصلاة على جميع الشروط والأركان والواجبات، ولم يخل بشيء، لكن لما كانت حضرة الطعام تشغله عن صلاته قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لا صلاة بحضرة طعام» أي لا صلاة كاملة، ولا نقول: إنه لنفي الصحة؛ لأن نفي الصحة يكون لفوات شرط أو لوجود مانع، وهذا غاية ما فيه أنه ينشغل القلب به، وانشغال القلب لا يبطل الصلاة، بدليل أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم حَدَّث أن الشيطان إذا أقيمت الصلاة ولَّى وله ضُرَاط، ثم يرجع يحدِّث المصلّي: اُذْكرْ كذا، اُذْكرْ كذا، حتى لا يدري ما صلَّى[2] فدل على أن انشغال الفكر لا يوجب بطلان الصلاة.
فإذا جاء النص محتملًا لهذا وهذا، مثل: «لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس»[3]، هل المعنى لا صلاة كاملة، أو لا صلاة صحيحة؟
نقــول: الأصل أن المراد لا صلاة صحيحة، فلا تصح الصلاة في أوقات النهي، إلا صلاة الفريضة، كالمقضية مثلًا، والصلاة التي لها سبب من النوافل على القول الراجح.
وبناء على هذا القول الراجح لو دخل الإنسان المسجد بعد صلاة العصر، فإنه لا يجلس حتى يصلي ركعتين، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين»[4]، فلو ادَّعى شخص أنَّ المراد لا صلاة كاملة، قلنا: هذا خلاف الأصل، وكل مَن يدعي خلاف الأصل فعليه الدليل.
ـ «لا صلاة لمنفرد خلف الصف»[5] هذا نفي للصحة، لا نحمله على نفي الوجود؛ لأنه قد يوجد من يصلي خلف الصف منفردًا، ولا نحمله على نفي الكمال، لأنه ليس عندنا دليل على صحة صلاة المنفرد خلف الصف، بل ورد أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم رأى رجلًا يصلي وحده خلف الصف فأمره أن يعيد الصلاة[6]، تأكيدًا للنفي.
وبعض العلماء حمل قوله: «لا صلاة لمنفرد خلف الصف» على نفي الكمال، وقال: لو صلى خلف الصف بلا عذر فصلاته صحيحة، واستدلوا لذلك بدليلين:
الدليل الأول: صحة صلاة المرأة وحدها خلف الصف، قالوا: وما ثبت في حق النساء ثبت في حق الرجال، وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم حين صلى بأنس بن مالك رضي الله عنه ومن معه أن المرأة صلت خلف الصف وحدها[7].
الدليل الثاني: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أدار ابن عباس رضي الله عنهما من اليسار إلى اليمين[8]. وهو في حال رجوعه من الوراء انفرد عن الصف.
ويجاب عن ذلك: بأن المرأة صلَّت خلف الصف وحدها؛ لأنها ليست من أهل المصافة للرجال، بل كلما بعدت عن الرجال فهو أفضل، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «خير صفوف النساء آخرها»[9]، فإذا وقفت وحدها فهذا للضرورة.
وأما قضية ابن عباس رضي الله عنهما، فإنه لم ينفرد خلف الصف، بل غاية ما هنالك انفراده لحظة مروره لكمال الصلاة.
وظاهر الحديث أنه لا صلاة لمنفرد خلف الصف ولو لعذر، وقد ذهب إليه بعض العلماء، وقالوا: صلاة الإنسان منفردًا خلف الصف باطلة، ولو كان لعذر.
واختار شيخ الإسلام[10]، وكذلك شيخنا عبدالرحمن بن سعدي[11] رحمهما الله أنَّه إذا كان لعذر فلا بأس، لأن قوله: «لا صلاة لمنفرد خلف الصف» يدل على وجوب المصافة، والوجوب يسقط بالعجز.
وعلى هذا تكون المصافة في حق هذا الرجل غير واجبة؛ لأنه عاجز عنها، ولا يشرع له أن يقف بجانب الإمام لأن ذلك مخالف للسنة التي تعتبر شعيرة وهي تقدم الإمام.
وتقدم الإمام له معنى ومغزى، لا مجرد كونه أَمَام الصف، بل حتى يعرف أنه إمام حقيقة؛ فيكون إمامًا بالأفعال، وإمامًا في المكان ولو تقدم أحد وصلى معه صارا إمامين، وإذا جاء ثالث صاروا ثلاثة أئمة، وهكذا.
ولهذا ليس من المشروع إطلاقـًا أن يقف إلى جانب الإمام.
فإذا قال قائل: يجذب أحد الناس ممن أمامه ليصف معه.
قلنــا: هذا أدهى وأمر؛ لأن فيه تصرفـًا في الغير، واعتداء عليه بنقله من المكان الفاضل إلى المكان المفضول، وتشويشًا عليه.
ومن مفاسد هذا أيضـًا الإخلال بهذا الصف بفتح فرجة فيه، وهي إما أن تبقى مفتوحة، وإما أن يتراص الناس فيتحرك كل الصف بدون فائدة.
فهل نقول: إذا كان الأمر كذلك لا تصف مع الإمام، ولا تجذب أحدًا ليصف معك، إذًا فلا تصل مع الجماعة؟
الجــواب: لا، هذا غير صحيح؛ لأن كونه يوافق الجماعة في الأفعال والاقتداء، ولو صلَّى خلفهم وحده، خير من كونه يصلِّي وحده لا مع الجماعة، فإنه لو صلَّى خلفهم انفرد خلف الصف ولكن لم ينفرد في المتابعة، ولو صلَّى وحده لا مع الجماعة، انفرد في الصف والمتابعة، وكلما قلَّت المفاسد كان أولى بالمراعاة مما لو كثرت.
مسألــة: من ركع دون الصف ودب إلى الصف وهو راكع، فرفع الإمام قبل أن يدخل هذا المأموم الراكع في الصف فما حكمه؟
والجواب أن نقول: تبطل صلاته.
مسألــة: لو أن رجلين جاءا وصليا معًا خلف صف فيه فرجة، فما الحكم؟
والجـواب أن نقول: تصح صلاتهما لأنه لا انفراد، ولكن فاتتهما فضيلة إتمام الصف الأول فالأول.
مسألــة: رجل ابتدأ صلاته منفردًا خلف الصف، ثم أثناء الصلاة دخل معه آخرون، فهل تبطل صلاته؟
الإجابــة: إذا ركع ورفع رأسه من الركوع، ولم يدخل أحد معه، بطلت صلاته.