عدد الرسائل : 14822 نقاط التميز : تاريخ التسجيل : 02/04/2008
موضوع: كتاب 48 سؤالًا في الصيام للشيخ العثيمين الجمعة 10 يوليو 2015 - 11:25
[size=32]من كتاب 48 سؤالًا في الصيام للشيخ العثيمين رحمه الله
محمد بن صالح العثيمين
[/size][size=32]شهر رمضان عظيم مبارك، أنزل الله فيه القرآن هدىً للناس وبيِّنات من الهدى والفرقان، وجعل صومه رُكنًا من أركان الإسلام، وقيامه نافلة تزداد بها الحسنات، وتكون سببًا في النجاة من النيران. ففي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن «مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه، ومَن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه» (رواه البخاري: [1901]، ومسلم: [1731]).
«مَن صام رمضان إيمانًا»، أي إيمانًا بالله عز وجل، وإيمانًا بشريعة الله وقبولًا لها، وإذعانًا واحتسابًا لثواب الله الذي رتَّبه على هذا الصيام وكذلك القيام، فمن قام رمضان أو ليلة القدر متصفًا بهذين الوصفين -الإيمان والاحتساب- غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه، وإننا إذا نظرنا إلى الماضي وجدنا أن هذا الشهر المبارك صارت فيه مناسبات عظيمة، يفرح المؤمن بذكراها ونتائجها الحسنة.
المناسبة الأولى؛ أن الله تعالى أنزل فيه القرآن:
أي ابتدأ إنزاله في هذا الشهر وجعله مباركًا، فتح المسلمون به أقطار الأرض شرقًا وغربًا، واعتزَّ المسلمون به وظهرت راية الإسلام على كل مكان.
ولا يخفى علينا جميعًا أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتي إليه بتاج كسرى من المدائن إلى المدينة محمولًا على جملين، كما ذُكِرَ ذلك في التاريخ، وضع بين يديه رضي الله عنه، لم ينقص منه خرزة واحدة، كل هذا من عِزَّة المسلمين وذِلَّة المشركين ولله الحمد، وإننا لواثقون أن الأمة الإسلامية سترجع إلى القرآن الكريم، وستحكم به، وستكون لها العِزَّة بعد ذلك إن شاء الله.
ولكن لا بُدَّ لجاني العسل من قرص النحل، ولجاني الورد من الشوك، لا بُدَّ أن يتقدم النصر امتحان لمن قاموا بالإسلام والدعوة إليه، لأن الله تعالى قال في كتابه: **وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد:31]، وقال تعالى: **أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
المناسبة الثانية في هذا الشهر المبارك؛ غزوة بدر:
وكانت غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة، وكان سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع أن عِيرًا لقريش يقودها أبو سفيان قادمة من الشام إلى مكة، فلما علِم بذلك ندب أصحابه السريع منهم أن يخرجوا إلى هذه العِير من أجل أن يأخذوها؛ لأن قريشًا استباحت إخراج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من ديارهم وأموالهم، ولم يكن بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهدٍ ولا ذِمَّة، فخرج صلى الله عليه وسلم إلى عِيرهم من أجل أن يأخذها، وخرج بعددٍ قليل، ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا، لأنهم لا يريدون الحرب، ولكنهم يريدون أخذ العِير فقط، فلم يخرجوا إلا بهذا العدد القليل ومعهم سبعون بعيرًا يعتقبونها وفَرَسَانِ فقط.
أما أبو سفيان الذي كانت معه العِير، فأرسل إلى أهل مكة يستحثهم، ليحموا عِيرهم ويمنعوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج أهل مكة بحدِّهم وحديدهم وكبريائهم وبطرهم، خرجوا كما وصفهم الله بقوله: **خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَآءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال من الآية:47].
وفي أثناء الطريق بلغهم أن أبا سفيان نجا بعِيره من النبي صلى الله عليه وسلّم، فاستشار بعضهم بعضًا، هل يرجعون أو لا يرجعون، فقال أبو جهل -وكان زعيمهم- والله لا نرجع حتى نقدُم بدرًا فنقيم عليها ثلاثًا، ننحر فيها الجزور، ونُسقى فيها الخمور، وتُعزَف علينا القِيان، وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدًا.
فهذه الكلمات تدل على الكبرياء والغطرسة، والثقة بالباطل ليدحض به الحق.. والتقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم بحدِّهم وحديدهم وكبريائهم وبطرهم وقوتهم، وكانوا ما بين تسعمائة وألف، أما النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا، والتقت الطائفتان، جنود الله عز وجل وجنود الشيطان، وكانت العاقبة لجنود الله عز وجل، قتل من قريش سبعون رجلًا من عظمائهم وشرفائهم ووجهائهم، وأُسِرَ منهم سبعون رجلًا..
وأقام النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام في عرصة القتال كعادته، بعد الغلبة والظهور، وفي اليوم الثالث ركب حتى وقف على قليب بدر التي ألقي فيها من صناديد قريش أربعة وعشرون رجلًا، وقف على القليب يدعوهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، يقول: «يا فلان ابن فلان، هل وجدت ما وعد ربكم حقًا، إني وجدت ما وعدني ربي حقًا». فقالوا: يا رسول الله، كيف تُكلِّم أُناسًا قد جَيَّفُوْا؟ -أي صاروا جِيفًا- قال: «ما أنتم بأسمع لِمَا أقول منهم، ولكنهم لا يستجيبون»، أو قال: «لا يرجعون قولًا» (رواه مسلم بنحوه: [2874] كتاب: الجنة).
ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة النبوية منتصِرًا ولله الحمد.
المناسبة الثالثة؛ فتح مكة:
كانت مكة قد استولى عليها المشركون وخرَّبوها بالكفر والشرك والعصيان، فأذِن الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يُقاتِل أهلها وأحلَّها له ساعةً من نهار، ثم عادت حُرمتها بعد الفتح كحُرمتها قبل الفتح، ودخلها النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة في العشرين من شهر رمضان عام ثمانية من الهجرة، مظفرًا منصورًا حتى وقف على باب الكعبة وقريش تحته ينتظرون ماذا يفعل بهم، فقال لهم: «يا قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟» قالوا: خيرًا، أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريم. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» (رواه ابن اسحاق كما في السيرة النبوية لابن هشام: [4/78]، ورواه ابن سعد في الطبقات: [2/ 141-142]).
فمَنَّ عليهم بعد القدرة عليهم، وهذا غاية ما يكون من الخُلُق والعفو.
وبعد عرض المناسبات في هذا الشهر لنا أن نقول: ما الذي ينبغي أن نفعله في شهر رمضان؟ الذي نفعله في هذا الشهر المبارك إما واجب وإما مندوب، فالواجب هو الصيام، والمندوب هو القيام.
والصيام كلنا يعرف هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس تعبُدًا لله، دليله قوله تعالى: **فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة من الآية:187].
والغرض من الصيام ليس ترويض البدن على تحمُّل العطش وتحمُّل الجوع والمشقة، ولكن هو ترويض النفس على ترك المحبوب لرضا المحبوب. والمحبوب المتروك هو الأكل والشرب والجِماع، هذه هي شهوات النفس.
أما المحبوب المطلوب رضاه فهو الله عز وجل، فلا بد أن نستحضر هذه النيَّة أننا نترك هذه المفطرات طلبًا لرضا الله عز وجل.
والحكمة من فرض الصيام على هذه الأمة قد بيَّنها الله سبحانه وتعالى في قوله: **يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، ولعلَّ هنا للتعليل، أي لأجل أن تتقوا الله، فتتركوا ما حرَّم الله، وتقوموا بما أوجب الله. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَن لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (رواه البخاري: [1903-6057]).
أي أن الله لا يريد أن ندع الطعام والشراب، إنما يريد مِنَّا أن ندع قول الزور والعمل به والجهل، ولهذا يندب للصائم إذا سبَّه أحدٌ وهو صائم أو قاتله فليقل: إني صائم، ولا يرد عليه؛ لأنه لو ردَّ عليه لردَّ عليه الأول ثم ردَّ عليه ثانيًا، فيرد الأول، ثم هكذا يكون الصيام كله سبًا ومقاتلة، وإذا قال: إني صائم، أعلمَ الذي سبَّه أو قاتله بأنه ليس عاجزًا عن مقابلته ولكن الذي منعه من ذلك الصوم، وحينئذٍ يكفُّ الأول ويخجل، ولا يستمر في السبِّ والمقاتلة.
هذه هي الحكمة من إيجاب الصيام، وإذا كان كذلك فينبغي لنا في الصوم أن نحرص على فعل الطاعات من الذكر، وقراءة القرآن، والصلاة، والصدقة، والإحسان إلى الخلق، وبسط الوجه، وشرح الصدر، وحُسن الخُلق، كل ما نستطيع أن نهذِّب أنفسنا به فإننا نعمله.
فإذا ظلَّ المسلم على هذه الحالة طوال الشهر، فلا بُدَّ أن يتأثر ولن يخرج الشهر إلا وهو قد تغيَّر حاله، ولهذا شُرع في آخر الشهر أن يُخْرِج الإنسان زكاة الفطر تكميلًا لتزكية النفس؛ لأن النفس تزكو بفعل الطاعات وترك المحرَّمات، وتزكوا أيضًا ببذل المال، ولهذا سُمِّي بذل المال زكاة. [/size]