دور قضاء الدولة فى منازعة التحكيم فى ضوء أحكام القانون رقم 27 لسنة 1994:
أولاَ: تحديد المحكمة المختصة:
إدراكاَ من المشرع للدور الطبيعي لقضاء الدولة فى منازعات التحكيم فقد حرص فى معرض تحديده للأحكام العامة فى الباب الأول من القانون على أن يحدد المحكمة المختصة بنظر مسائل التحكيم التى يحيلها القانون إلى قضاء الدولة آخذاَ فى ذلك بقاعدة أن "محكمة البداية هى محكمة النهاية" بمعنى أن تظل المحكمة التى ينعقد لها الاختصاص دون غيرها صاحبة الاختصاص حتى انتهاء جميع إجراءات التحكيم وفى ذلك ما يصون منازعة التحكيم من أن تقطع أوصالها بين أكثر من محكمة.
وفى معرض تحديد المحكمة المختصة فرق المشرع بين التحكيم ذو الطابع التجاري الدولي وذلك الذى لا يحمل هذا الطابع ففيما يتعلق بذلك الذى لا يحمل هذا الطابع حدد المشرع المحكمة المختصة أصلاَ بنظر النزاع محكمة مختصة بنظر مسائل التحكيم، ولم يخرج عن ذلك إلا بصدد دعوى بطلان حكم التحكيم، إذ عقد الاختصاص بنظرها لمحكمة الدرجة الثانية التى تتبعها المحكمة المختصة أصلاَ بنظر النزاع (م 54/2). أما بالنسبة للتحكيم التجاري الدولي: فقد يسر المشرع على أطراف التحكيم فعقد الاختصاص بنظر مسائلة لمحكمة استئناف القاهرة إلا إذا اتفق الطرفان على اختصاص محكمة استئناف أخرى (م 9).
ثانياَ: اتفاق التحكيم: § أجاز المشرع أن يتم اتفاق التحكيم ولو كان قد رفع بشأن النزاع محله دعـوى أمام قضاء الدولة وواجب أن يحدد هذا الاتفاق المسائل التى يشملها التحكيم وإلا كان الاتفاق باطلاَ (م 10/2).
§ واعترافاَ من المشرع باتفاق التحكيم بما يعنييه من نزول طرفين عن حقهما فى الالتجاء الى قضاء الدولة فقد ألزم محاكم الدولة التى يرفع إليها نزاع يوجد بشأن اتفاق تحكيم أن تحكم بعدم قبول الدعوى بشرط أن يدفع المدعى عليه بهذا الدفع قبل إبداء أي طلب أو دفاع فى الدعوى (م 13/1)، وأجاز المشرع البدء فى إجراءات التحكيم أو الاستمرار فيها أو إصدار حكم التحكيم ولو كانت تلك الدعوى قد رفعت بالفعل (م 13/2).
ثالثاَ: التدابير المؤقتة والتحفظية: § أجاز المشرع للمحكمة المختصة ـ على حسب الأحوال ـ أن تأمره بناء على طلب أحد طرفي التحكيم، سواء قبل البدء فى إجراءاته أو أثناء سير هذه الإجراءات باتخاذ تدابير مؤقتة أو تحفظية (م 14).
§ كما أجاز ذلك لهيئة التحكيم إذا اتفق الطرفان على ذلك وطلب أحدهما، وأجاز للهيئة أن تطلب تقديم ضمان كاف لقضية نفقات التدبير الذى تأمر به، كما أجاز لها ـ فى حالة تخلف من صدر إليه الأمر عن تنفيذه ـ أن تأذن للصادر لصالحه الأمر فى اتخاذ الإجراءات اللازمة لتنفيذه (ولا يخل ذلك بحـق هـذا الطـرف فى أن يستخدم الرخصة المخولة له فى المادة 14) (م 24).
رابعاَ: هيئة التحكيم: (i) من حيث تشكيلها: الأصل هو أن يتم هذا التشكيل (اختيار المحكمين وكيفية ووقت اختيارهم) باتفاق الطرفين، فماذا إذا لم يتفقا؟ وماذا إذا اتفقا وخالف أحد الطرفين الإجراءات التى اتفق عليها؟ فى حالة عدم الاتفاق يختلف الأمر بحسب ما إذا كانت الهيئة مشكلة من محكم واحد أو ثلاثة محكمين:
(1) فإذا كانت الهيئة مشكلة من محكم واحد تولت المحكمة المختصة ـ على حسب الأحوال ـ اختياره بناء على طلب أحد الطرفين.
(2)أما إذا كانت الهيئة مشكلة من ثلاثة محكمين ولم يعين أحد الطرفين محكمه خلال الثلاثين يوماً التالية لتسلمه طلباَ بذلك من الطرف الآخر، أو إذا لم يتفق المحكمان المعينان على اختيار المحكم الثالث خلال الثلاثين يوماً التالية لتاريخ تعيين آخرها تولت المحكمة المختصة ـ على حسب الأحوال ـ اختياره بناء على طلب أحد الطرفين. (يسرى هذا الحكم أيضاَ فى حالة تشكيل الهيئة من أكثر من ثلاثة محكمين).
أما فى حالة وجود اتفاق وخالف أحد الطرفين الإجراءات المتفق عليها أو أختلف المحكمان على أمر يلزم اتفاقهما عليه تولت المحكمة المختصة ـ على حسب الأحوال ـ بناء على طلب أحد الطرفين القيام بالإجراء أو العمل المطلوب ـ قرار المحكمة باختيار المحكم لا يقبل الطعن فيه بأي طريق من طرق الطعن إلا إذا توافر فيه حالة من حالات الرد (م 17) وسوف نعالج الرد فى الفقرة التالية. (ii) من حيث رد المحكم:
§ الأصل أن لا يجوز رد المحكم إلا إذا قامت ظروف تثير شكوكاَ جدية حول حيدته واستقلاله، كما لا يجوز للطرف رد المحكم الذى عينه أو اشترك فى تعيينه إلا لسبب تبينه بعد أن تم التعيين (م 18).
§ أما عن طلب الرد وإجراءات نظره والفصل فيه، فقد كانت المادة (19) من القانون وقت صدوره تجعل من هيئة التحكيم سلطة فصل فى طلب الرد، وتقيم المحكمة المختصة سلطة طعن فى قرار الهيئة، وكان مؤدى ذلك أن المشرع ناط الفصل فى خصومة رد المحكم بهذا المحكم نفسه طالما أن لم يتنح وظل متمسكاً بنظر النزاع وذلك إذا كانت هيئة التحكيم أحادية (مشكلة منه وحده)، أما إذا كانت الهيئة مشكلة من أكثر من محكم وكان طلب الرد يتناول بعضهم أو يشملهم جميعاَ اختصوا بالفصل فى هذا الطلب.
§ وقد طعن على هذا النص أمام المحكمة الدستورية العليا بالطعن رقم 84 لسنة 19 ق دستورية وصدر حكمها بجلسة 6 نوفمبر 1999 قاضياَ بعدم دستورية العبارة الواردة بالبند (1) من المادة (19) والتى تنص على أن "فصلت هيئة التحكيم فى الطلب" تأسيساً على أن ذلك ينافي قيم العدل ومبادئه وينقض مبدأ خضوع الدولة للقانون وينتهك ضمان الحيدة التى يقتضيها العمل القضائية بالنسبة الى فريق من المتقاضين مما يخالف أحكام المواد 40، 65، 67، 68، 69 من الدستور.
§ وعلى أثر ذلك تدخل المشرع وعدل نص المادة (19) بمقتضى القانون رقم ( لسنة 2000 منيطاً بالمحكمة المختصة ـ على حسب الأحوال ـ الفصل فى طلب الرد ـ بعد إحالته إليها بغير رسوم ـ بحكم غير قابل للطعن. (iii) من حيث إنهاء مهمة المحكم:
أجاز المشرع ـ بناء على طلب أحد الطرفين ـ أن تنهى المحكمة المختصة مهمة المحكم وذلك إذا تعذر عليه أدائها أو لم يباشرها أو انقطع عن أدائها بما يؤدى إلى تأخير لا مبرر له فى إجراءات التحكيم (م 20). (iv) من حيث الفصل فى الدفوع المتعلقة بعدم اختصاص هيئة التحكيم:
الأصل أن تفصل الهيئة فى هذه الدفوع بما فيها تلك المبنية على عدم وجود اتفاق تحكيم أو سقوطه أو بطلانه أو عدم شموله لموضوع النزاع، وذلك قبل الفصل فى الموضوع أو أن تضمها للموضوع لتفصل فيهما معاَ ـ فإذا قضت بقبولها فلا مشكلة ـ أما إذا قضت برفض الدفع، فلا سبيل أمام من يتمسك به إلا برفع دعوى بطلان حكم التحكيم المهنى للخصومة كلها (م 22). خامساً: إجراءات التحكيم:القاعدة الأساسية فى الإجراءات هى حرية الطرفين فى اختيار قواعد الإجراءات شريطة مراعاة أصول التقاضى وفى مقدمتها المساواة بين الطرفين وتهيئة فرصة كاملة ومتكافئة لكل منهما لعرض قضيته. وعلى الرغم من ذلك فإن طبيعة الأمور اقتضت أن يكون لقضاء الدولة دور فى هذا الخصوص، وقد راعى المشرع ذلك فاختص رئيس المحكمة المختصة ـ على حسب الأحوال ـ بناء على طلب هيئة التحكيم بأن:
(i) يحكم على من يتخلف من الشهود عن الحضور، أو يمتنع ـ عند حضوره ـ عن الإجابة بالجزاءات المنصوص عليها فى المادتين 78 و80 من قانون الإثبات (الغرامة ـ أو الأمر بإحضاره على حسب الأحوال).
(ii) يأمر بالإنابة القضائية (م 37).
سادساَ: حكم التحكيم وإنهاء الإجراءات: § حدد المشرع ميعاداَ تلتزم هيئة التحكيم خلاله بإصدار الحكم المنهى للخصومة إذا لم يتفق الطرفان على ميعاد، وهذا الميعاد الذى حدده المشرع هو (اثنى عشر شهراَ من تاريخ بدء الإجراءات) يجوز مده لمدة لا تزيد على (ستة أشهر ما لم يتفق الطرفان على مدة تزيد على ذلك).
§ فماذا إذاَ لم تصدر الهيئة الحكم خلال هذا الميعاد؟
فى حالة تحقق هذا الغرض أجاز المشرع لأي من الطرفين أن يطلب من رئيس المحكمة المختصة ـ على حسب الأحوال ـ أن يصدر أمراَ بتحديد ميعاد اضافي أو بإنهاء إجراءات التحكيم، فإذا صدر الأمر بإنهاء الإجراءات يكون لأي من الطرفين اللجوء الى قضاء الدولة برفع دعواه الى المحكمة المختصة أصلاَ بنظرها.
أما إذا صدر حكم هيئة التحكيم، فإن المشرع ألزم الصادر لصالحه هذا الحكم أن يودع أصله أو صورة موقعة منه باللغة التى صدر بها أو ترجمة باللغة العربية مصدقاَ عليها من جهة معتمدة إذا صدر بلغة أجنبية وذلك فى قلم كتاب المحكمة المختصة ـ على حسب الأحوال ـ التى يحرر كاتبها محضراَ بهذا الإيداع مع إعطاء من يطلب من الطرفين صورة منه (م 47).
سابعاَ: بطلان حكم التحكيم:الأصل أنه وإن كانت أحكام التحكيم لا تقبل الطعن فيها بأي طريق من طرق الطعن المنصوص عليها فى قانون المرافعات المدنية والتجارية، إلا أن المشرع أجاز الطعن فيها بطريق دعوى البطلان (م 52) فى حالات عددتها (م 53) لوحظ فى إيرادها أن تتطابق مع الحالات المنصوص عليها فى (م 5) من اتفاقية نيويورك بشأن الاعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها الصادرة عام 1958 والتى انضمت إليها مصر فى 9 مارس 1959 والمنشورة بملحق الوقائع المصرية العدد (35) فى 5 مايو 1959. § ولأهمية دعوى البطلان بحسبانها الوسيلة الوحيدة للطعن فى أحكام المحكمين فإن نزول مدعى البطلان عن حقه فى رفعها قبل صدور حكم التحكيم لا يعتد به، إذ لا يحول دون قبولها.
§ كما انعكست هذه الأهمية أيضاَ على تحديد المحكمة المختصة بنظر دعوى البطلان فى غير التحكيم التجارى الدولي، إذ حددها المشرع بكونها محكمة الدرجة الثانية التى تتبعها المحكمة المختصة أصلاَ بنظر النزاع، أما فى التحكيم التجاري الدولي فهى ذات المحكمة المختصة بكل مسائل هذا النوع من التحكيم وهى محكمة استئناف القاهرة إلا إذا اتفق على اختصاص محكمة استئناف أخرى.
ثامناَ: حجية أحكام المحكمين وتنفيذها: § اعترف المشرع لأحكام المحكمين بحجية الأمر المقضي وكونها واجبة النفاذ (م 55).
§ واختص رئيس المحكمة المختصة ـ على حسب الأحوال ـ أو من ينيبه من قضاتها بإصدار الأمر بتنفيذ حكم المحكمين بناء على طلب يقدم إليه مرفقاَ به: 1) أصل الحكم أو صورة موقعة منه وترجمته مصدق عليها إذ لم يكن الحكم صادراَ بالعربية. 2) صورة من اتفاق التحكيم. 3) صورة من المحضر الدال على إيداع الحكم (م 56).
§ وقد أخذ المشرع بقاعدة مؤداها: أن رفع دعوى البطلان لا تحول دون تنفيذ حكم التحكيم إلا إذا أمرت المحكمة بوقف تنفيذه بناء على طلب المدعى ذلك فى صحيفة الدعوى على أن يكون الطلب مبنياَ على أسباب جدية.
وحدد المشرع مدة ستين يوماَ من تاريخ أول جلسة محددة لنظر وقف التنفيذ ميعاداَ للفصل فيه.
وأجاز المشرع للمحكمة ـ إذا أمرت بوقف التنفيذ ـ أن تأمر بتقديم كفالة أو ضمان مالي، كما ألزمها ـ إذا أمرت بوقف التنفيذ ـ أن تفصل فى دعوى البطلان خلال ستة أشهر من تاريخ صدور هذا الأمر (م 57). وفى تقديرنا أن الميعادين المنصوص عليهما همـا ميعادان تنظيميان، إذ لم يرتب المشرع على مخالفتهما أي جزاء.
§ وقد نص المشرع على عدم قبول طلب تنفيذ حكم التحكيم إذا لم يكن ميعاد رفع دعوى البطلان قد انقضى (م 58/1) (التسعين يوماَ التالية لتاريخ إعلان حكم التحكيم للمحكوم عليه المنصوص عليها فى م 54/1) ومفاد ذلك أنه إذا لم يكن هذا الميعاد قد بدء بعد أو كان قد بدء ولم ينتهى وقد طلب تنفيذ الحكم فإنه على المحكمة أن تقضى بعدم قبوله.
§ أما عن التظلم من الأمر الصادر بشأن حكم التحكيم: فقد كان المشرع يفرق من حيث جواز التظلم من عدمه بين ما إذا كان الأمر صادراً بتنفيذ الحكم أم كان صادراً برفض تنفيذه، ففى الحالة الأولى (صدور الأمر بتنفيذ الحكم) لم يجيز المشرع التظلم من هذا الأمر، أما فى الحالة الثانية (صدور الأمر برفض التنفيذ) فإن المشرع أجاز التظلم من هذا الأمر خلال ثلاثين يوماَ من تاريخ صدوره الى المحكمة المختصة على حسب الأحوال (م 58/3).
§ وليس ثمة شك فى أن هذا النص يمنحه الطرف الذى يتقدم بطلب تنفيذ حكم المحكمين الحق فى التظلم من الأمر الصادر برفض التنفيذ ليثبت توافر طلب الأمر بتنفيذ الحكم على الضوابط التى تطلبها القانون وحرمانه الطرف الآخر فى خصومة التحكيم مكنه التظلم من الأمر الصادر بالتنفيذ لينفي فى المقابل توافر طلب الأمر بالتنفيذ على الضوابط عينها يكون قد مايز ـ فى مجال ممارسة حق التقاضى ـ بين المواطنين المتكافئة مراكزهم القانونية دون أن يستند هذا التمييز الى أسس موضوعية تقتضيه بما يمثل إخلالاَ بمبدأ مساواة المواطنين أمام القانون وعائقاَ لحق التقاضي مخالفاَ بذلك أحكام المادتين (40 و68) من الدستور بما يجعله غير دستوري.
وقد طعن بالفعل على هذا النص أمام المحكمة الدستورية العليا فى الطعن رقم (92) لسنة 21 ق دستورية وصدر الحكم بجلسة 6 يناير 2001 قاضياَ بعدم دستوريته. وإذا كان مؤدى هذا الحكم انفتاح طريق التظلم لمن صدر ضده الأمر بتنفيذ حكم التحكيم إلا أن الأمر يقتضي تدخلاَ تشريعياَ لتنظيم هذا التظلم (إجراءاته ـ ميعاده ـ شروطه .. الخ). خاتمــة:بعد، إذا كان التحكيم ـ بحسبانه أحد بدائل اللجوء إلى قضاء الدولة ـ هو نوع من القضاء الاتفاقى مبناه حرية إرادة أطرافه بما لازمه أن اتفاق التحكيم يعد قاعدة الأساس وقانون الهيئة التى تباشر التحكيم، ولازم أيضاَ أن هذه الهيئة تتمتع باستقلال كبير فى مباشرتها لعملها، إلا أن ذلك كله لا يعنى الانفصال التـام والقطيعة الكاملة بين القضائيين، فهناك من المسائل ـ التى سلف بيانها ـ ما لا غنى لهيئة التحكيم عن الاستعانة فى شأنها بقضاء الدولة، وهذه المسائل تشكل دوراَ طبيعياَ لهذا القضاء فى منازعات التحكيم، بيد أنه ـ وحتى يؤتى قضاء التحكيم أكله ـ فلا بد ألا يتعدى هذا الدور المعقود لقضاء الدولة حدوده الطبيعية، بل يتعين أن يقف عند تخوم الدور المعقود لهيئة التحكيم، فتتوازن الأمور بين القضائين، ليظل لقضاء التحكيم دوره الفعال فى حسم ما يطرح عليه من أنزعه.