التحكيم الشرعي
التحكيم الشرعي: مصطلح قضائي إسلامي يقصد به الدلالة على نوع خاص من أنواع التحكيم، يجري في دعوى التفريق لعلة الشقاق بين الزوجين.
فعندما يستحكم الشقاق بين الزوجين، وتفشل السبل غير القضائية في معالجته أو إزالة أسبابه، ويرفع أحدهما ظلامته إلى القاضي المختص طالباً منه إنصافه. فإن القاضي في هذه الحالة، مأمور شرعاً باللجوء إلى التحكيم الثنائي. وهذا ما نص عليه القرآن الكريم بقوله تعالى: }وإن خِفتُم شِقاقَ بينِهِما، فابعثوا حكماً مِن أهلِهِ، وحكماً من أَهِلها. إن يُريدا إصلاحاً يوفِقِ الله بيَنَهُما. إنَّ اللهَ كانَ عليماً خبيراً{ (سورة النساء 35).
قوام التحكيم الشرعي
اتفقت كافة المذاهب الإسلامية على أن قوام التحكيم الشرعي، حَكَمان اثنان. أحدهما من أهل الزوج، والثاني من أهل الزوجة. وإنما كان الحكمان من الأهل. لأن الأهل أعرف من الغرباء بظروف الحال وخفايا الحياة الزوجية بين المتخاصمين، وأبعد عن التهمة بالميل لأحدهما، وأكثر عناية بالصلح. ولأن الزوجين أكثر ركوناً إلى الأهل من الغرباء، وخاصةً فيما يتعلق بأسرار ما بينهما. فإذا لم يوجد في الأهل من يصلح للتحكيم، جاز أن يكون الحكمان من الغرباء عملاً بالقاعدة الفقهية «إذا تعذر الأصل يصار إلى البدل».
سلطة تعيين الحكمين
اتفقت كافة المذاهب الإسلامية على أن تعيين الحكمين، أياً كانا، إنما هو للقاضي. لأن الخطاب في الآية المذكورة أعلاه موجّه للحاكم. والقاضي نائب عن الحاكم. ودليل ذلك أن الله تعالى لما ذكر قبل هذه الآية نشوز الزوجة، وخاطب الزوج مبيناً له السبل التي يباح له مباشرتها لمعالجة هذا النشوز، قال إثر ذلك مباشرة: «وإن خِفتُم شِقاقَ بينِهِما، فابعثوا حكماً من أهلِهِ، وحكماً مِنْ أهِلها...». فدل ذلك على أن الخطاب لم يعد للزوج. كما دل على أن بعث الحكمين لا يكون إلا حينما تفشل تلك السبل في معالجة نشوز الزوجة، أو حينما يكون الشقاق بسبب من الزوج نفسه. وبدهي أن هذا يعني انسداد كل سبل المعالجة إلا سبيل الاحتكام إلى من ينصف المظلوم من الظالم. وهذا هو القاضي الذي بيده سلطة الحكم والتنفيذ.
أهداف التحكيم الشرعي
يهدف التحكيم الشرعي إلى صيانة الأسرار الزوجية عن أن تكون محلاً للمهاترات بين الزوجين أمام القضاء في جلسات علنية. لما في إفشائها وإعلانها من أضرار بالغة تصيب كلاً من الزوجين معاً. كما يهدف إلى عدم إشغال القضاء بدقائق المسائل والخلافات الزوجية التي غالباً ما يتعذر إثباتها بوسائل الإثبات المقبولة قضائياً، والتي تستعصي على الانضباط بقواعد قانونية عامة ومجردة، والتي تحكمها العادات والأعراف الاجتماعية والأسرية بل والأمزجة الشخصية أيضاً. هذا فضلاً عن أن التحكيم الشرعي أقدر من القضاء على تحقيق المصالحة بين الزوجين. وقديماً قيل «الصلح سيد الأحكام». وتنحصر مهمة الحكمين في الإصلاح أو التفريق.
نطاق التحكيم الشرعي وصلاحيات الحكمين
اختلفت المذاهب الفقهية الإسلامية، واختلفت تبعاً لذلك القوانين المستندة إليها، في نطاق مهمة الحكمين في التحكيم الشرعي بين موسِّع ومضيِّق على رأيين اثنين.
وعلى كل حال فالإجماع منعقد على أن أهم وأول ما يجب على الحكمين أن يقوما به إنما هو أن يتعرفا على أسباب الشقاق بين الزوجين، ثم أن يبذلا كل جهد ممكن في سبيل الإصلاح بينهما. فإذا نجحا في الإصلاح فعلاً، فقد انتهت مهمتهما. أما إذا فشلا في ذلك فقد اختلفت المذاهب الفقهية والقوانين على رأيين:
فذهب المالكية، والحنبلية في قول مرجوح، والشافعية في أحد قولين في المذهب إلى أن للحكمين أن يلزما الزوجين بدون إذنهما بالطلاق. وإن رأيا أن تفتدي الزوجة نفسها بشيء من مالها أو حقوقها، تبعاً لمقدار إساءتها، فلهما ذلك أيضاً. وحجتهم فيما ذهبوا إليه أن الله تعالى سمى كلاً منهما حكماً. والحكم هو الحاكم. ومن شأن الحاكم أن يحكم على المحكوم عليه رضي أم سخط. وهذا ما أخذت به قوانين الأحوال الشخصية في سورية، ولبنان، ومصر، والأردن، والسودان وغيرها.
وذهب الحنفية، والجعفرية، والحنبلية في الأرجح، والشافعية في المعتمد، والظاهرية، إلى أنه ليس للحكمين أن يفرّقا إلا إذا أذن لهما الزوجان معاً في ذلك، لكن الحنفية قالوا: القاضي هو الذي يوقع الطلاق، وهو طلاق بائن. وحجتهم فيما ذهبوا إليه أن الله تعالى لم يضف إلى الحكمين إلا الإصلاح. وهذا يقتضي أن يكون ما وراء ذلك غير مفوض إليهما. ولأنهما وكيلان عن الزوجين. وحكم الوكيل لا ينفذ إلا برضا الموكل. وهذا ما أخذت به قوانين الأحوال الشخصية في المغرب، وتونس، والعراق وغيرها.
وعلى هذا فإن نطاق التحكيم وصلاحيات الحكمين عند أصحاب الرأي الثاني تنحصر في الإصلاح فقط. أما عند أصحاب الرأي الأول فهي تتجاوز الإصلاح إلى التفريق مع تحميل المسيء منهما تبعة إساءته. فإن كانت الإساءة كلها أو أكثرها من الزوج قررا التفريق مع إلزام الزوج كامل المهر. وإن كانت الإساءة كلها أو أكثرها من الزوجة قررا التفريق مع براءة ذمة الزوج من كامل المهر. وإن كانت الإساءة مشتركة بينهما قررا التفريق مع إعفاء الزوج من قسم من المهر يتناسب ومدى إساءة الزوجة. وليس للحكمين أن يتدخلا في أي حق آخر من حقوق الزوجية سوى المهر فقط. وبذلك تخرج النفقة أو الأشياء الجهازية أو المصاغ والحلي عن نطاق صلاحيات الحكمين إجماعاً.
رقابة القضاء على التحكيم الشرعي
ليس في اتفاق الحكمين على رأي واحد أي إشكال. أما إذا اختلفا في الرأي، فيحق للقاضي إما استبدالهما بحَكَمين آخرين، وإما ضم حكم ثالث مرجح إليهما.
ولا تشترط المذاهب الفقهية وقوانين الأحوال الشخصية التي خولت الحكمين صلاحيات التفريق بين الزوجين أن يعللا تقريرهما الذي يرفعاه إلى القاضي. وأوكلت لضميرهما مهمة إبداء رأيهما الذي لا رقابة عليه سوى رقابة الله والضمير.
وعلى كل حال فإن لكلٍ من الزوجين الحق في الاعتراض على تقرير الحكمين. فإذا كان هذا الاعتراض وجيهاً ومشفوعاً بأسباب معقولة ـ يقدّرها القاضي ـ جاز للقاضي رفض التقرير، وعليه أن يعين حكمين آخرين ولمرة واحدة فقط. أما إذا كان الاعتراض غير وجيه ومشفوعاً بأسباب واهية أو غير مؤثرة، فإن للقاضي اعتماد التقرير والحكم بموجبه.
وليس للقاضي أن يعدّل في التقرير المذكور بأي حذف أو إضافة أو زيادة أو نقصان. فهو إما أن يقبله جملةً وإما يرده جملةً.
الآثار القانونية لقرار الحكمين
إن التفريق بين الزوجين لا يقع شرعاً وقانوناً بمجرد رفع الحكمين تقريرهما إلى القاضي. ولذلك فلا أثر لهذا التقرير إلا بعد أن يضمن القاضي نتيجته في الحكم الذي يفصل بموجبه في الدعوى المعروضة أمامه بحكم قضائي مستوف لشرائطه المطلوبة. وبذلك يقع التفريق، وتبدأ عدة الزوجة، من تاريخ صدور الحكم عن القاضي وليس من تاريخ التقرير.
محمد وفاريشي