عدد الرسائل : 14822 نقاط التميز : تاريخ التسجيل : 02/04/2008
موضوع: النظرية والتجربة الثلاثاء 22 ديسمبر 2009 - 10:26
لقد حاولت العلوم الطبيعية منذ نشأتها أن تؤسس نظريات تبتعد عن التأمل الفلسفي من خلال الاستناد إلى معطيات مادية ووقائع تجريبية. لكن، تاريخ هذه العلوم سيعرف مع ظهور الفيزياء المعاصرة، تحولات جديدة، وبالتالي إعادة النظر في المفاهيم السائدة إلى حدود القرن التاسع عشر. وذلك ما ساهم في بزوغ نوع جديد من التفكير الفلسفي يعرف بالإبستيمولوجيا، والذي يمكن تحديد أبعاده الوظيفية في نقد العلم من خلال مبادئه، ومناهجه، ومحاولة استباق نتائجه... وذلك ما بين أن النظريات العلمية لا تتصف بالثبات لأنها أصبحت تجسد نوعا من التنوع والنسبية، الأمر الذي يقود إلى طرح التساؤلات التالية: إلى أي حد يمكن اعتبار النظرية العلمية بناء تجريبيا ؟ بماذا يتميز حضور العقل داخل النظريات العلمية ؟ ما هي المعايير التي يمكن اعتمادها للإقرار بعلمية النظريات العلمية؟
1. التجربة والتجريب
إذا انطلقنا من تعريف إجرائي يعتبر النظرية العلمية بناء/نسقا فكريا يتدرج من مقدمات وصولا إلى نتائج ؛ فإن ذلك ما يدفع إلى التساؤل التالي : هل النظرية العلمية بناء نسقي تجريبي أم بناء فرضي استنباطي ؟ إن مثل هذا التساؤل يستمد مشروعيته من المقارنة بين ما كانت عليه الفيزياء التقليدية وما أضحت عليه الفيزياء المعاصرة. يمكن أن نتمثل علاقة النظرية العلمية في شكلها التقليدي بالتجربة والتجريب بواسطة التحليل الميتودولوجي لكلود بيرنار C. Bernard
لما بين أن خطوات المنهاج التجريبي قابلة للاختزال في الخطوات التالية :
ملاحظة الظاهرة أثناء حدوثها في الطبيعة
ميلاد فرضية (تساؤل) تتأسس على مبدإ السببية نتيجة للمعاينة السابقة.
اللجوء إلى التجربة لاختبار مصداقية الفرضية، بحيث تترجم التجربة مرحلة عزل الظاهرة وإعادة بنائها داخل المختبر.
معاينة النتائج المباشرة، ومن ثم تعميم النتائج على الظواهر المتماثلة في الطبيعة وبالتالي صياغة القوانين.
إن هذه الخطوات تظهر العالم في صورة المجرب والملاحظ: فالتجريب يمكن العالم من تحري الدقة والموضوعية، معتمدا على ملاحظة مضبوطة ترتكز على الأدوات والأجهزة. لذا بين كلود بيرنار أن الملاحظة أشبه ما تكون بالتصوير الفوتوغرافي الذي ينقل الوقائع بأمانة، أما التجربة فإنها تشكل الأساس الذي يمكن من التحقق من صدق الفرضيات. من هذا المنطلق، يتدخل روني توم R. Thom
ليتساءل إذا كان التصور التقليدي يتصور أن التجريب هو محاولة للتيقن من صدق فرضية ما، فما هو مصدر الفرضية ؟ ليبين أنه لا يمكن أن توجد فرضية دون تفكير نظري قبلي، لأن الفرضية لا تمثل فقط مجرد أولية فكرية خرجت من العقل، وإنما تجسد أيضا تعبيرا عن علاقة سببية تربط الأسباب بالنتائج. ومن ثم كان فرانسيس بيكون (في اعتقاد روني توم) متوهما لما أكد أن التجريب وحده هو الذي يمنح القدرة على التحليل السببي للظواهر. إن التجريب عاجز بمفرده عن الوصول إلى أسباب الظاهرة، ولا يمكنه أن يحمل في ذاته أي دلالة علمية دون التفكير... ليؤكد روني توم أن التفكير يظل عملية معقدة غير قابلة للضبط والتقنين أو التأطير داخل منهج بعينه.
إن أشباه هذه التمثلات هي التي تقود إلى طرح التساؤل التالي : ما هو دور العقل في بناء النظرية العلمية ؟ وما طبيعة العقلانية العلمية ؟
2. العقلانية العلمية
لقد كان إنشتاين من أهم العلماء والمفكرين الذين حاولوا أن يبرزوا حدود التجربة في النظرية العلمية الفيزيائية، ولا عجب في ذلك إذا كنا نعرف أن نظرية النسبية - عند إنشتاين - كانت وراء ما يعرف إبيستيمولوجيا ب "أزمة التجربة"، على اعتبار أن كثيرا من المفاهيم والتمثلات (مثل نسبية الزمان، نسبية المكان...إلخ) غير قابلة للتحقق التجريبي، لأنها لا تستقيم إلا من خلال التحليل الرياضي. إن ذلك يعتبر من جملة الأسباب التي جعلت إنشتاين يقر أن العقل هو الذي يعطي للنظرية بنيتها وتماسكها، أما التجربة، فإن عليها أن تطابق نتائج النظرية. ومن ثم تكون "القاعدة الأكسيومية" للنظرية (قاعدة المبادئ والمفاهيم) إبداعات حرة للعقل، بحيث لا يستطيع الإنسان أن يجد لمفاهيم النظرية ومبادئها أي شكل من أشكال التبرير القبلي. هكذا أصبحت الفيزياء اليوم تتجه إلى الاعتماد على الرياضيات، بحيث أصبح "المبدأ الخلاق في العلم لا يوجد في التجربة، بل في العقل الرياضي" (إنشتاين).
لقد حاول غاستون باشلار G. Bachelad
أن يظهر – بطريقته الخاصة - أهمية العقلانية العلمية، من خلال التأكيد على أن المواجهة الفلسفية بين توجه عقلاني محض، وتوجه تجريبي صرف لم تعد مواجهة قائمة في الفيزياء المعاصرة، نظرا للتداخل بين ما هو عقلاني وما هو تجريبي. فالواقع العلمي لم يعد بالضرورة هو الواقع المادي الصلب الذي يفرض نفسه على الذات من خارج، لأنه (الواقع العلمي) أصبح في قبضة ما هو عقلي. وبتعبير مغاير، إن العقلانية العلمية لم تعد تتشكل في إطار وعي مستقل عن الواقع، لأن الواقع العلمي أصبح واقعا يتدخل العقل في تحويله وتصحيحه. هكذا أصبح الواقع العلمي واقعا عقليا. (انظر مثلا إلى طبيعة الضوء، هناك نظرية تنظر إليه على أنه ذي طبيعة تموجية، وهناك نظرية تعتبره ذي طبيعة جسيمية). فما الذي يضمن، إذن، صدق النظرية العلمية؟
3. معايير صدق النظرية العلمية
إن إشكالية تحديد مصداقية النظرية العلمية يفترض مبدئيا التساؤل حول وجود معيار يمكن اعتماده كأداة للقياس. إن هذا يقود إلى التساؤل حول صلاحية مبدإ التحقق التجريبي كمعيار وحيد للتأكد من صدق النظرية العلمية. فمعيار التحقق يفترض التأكد من صدق النظرية العلمية من خلال ترجمتها الفعلية والتطبيقية على أرض الواقع، وبذلك كانت الفيزياء التقليدية تحتكم إليه، لأن القوانين والنتائج العلمية كانت تتأسس على مبدإ الحتمية (نفس الأسباب/الشروط تعطي دائما نفس النتائج)، وقابلة للتمثل على مستوى الواقع، وذلك ما يتيح التأكد من صلاحية النظرية عن طريقة التجربة مما يفسر الاعتماد المطلق على التجريب في تأسيس النظريات العلمية.
لكن مع ظهور الفيزياء المعاصرة، وبالتالي الاعتماد الكبير على العقل والفكر الرياضي، ستتغير طبيعة النظرية الفيزيائية، مما دفع بالعلماء إلى إعادة النظر في قيمة معيار التحقق التجريبي، هكذا بين بيير تويليي P. Thuillier
أن القول بأننا نستنبط نتائج يمكن أن تخضع للتحقق التجريبي أمر قابل للنقاش، لأن هذا المعيار يظل مجرد معيار ضمن معايير مختلفة، والشيء المؤكد أن معيار التماسك المنطقي أصبحت له المكانة الأساسية..
إن ما تقدم يبين أن معيار صدق النظرية قد تحول من معيار التحقق التجريبي إلى معيار التماسك المنطقي، أي التأكيد على أن رجاحة نظرية علمية لم يعد يتوقف على صدقها التجريبي لأنه أصبح يتوقف على العلاقة المنطقية بين مكونات النظرية العلمية بدءا بالمفاهيم والمبادئ وانتهاء بالنتائج.
إن هذا النقاش، هو الذي فتح شهية العلماء والإبيستمولوجيين للتفكير في معايير جديدة تنضاف إلى معيار التماسك المنطقي، وفي هذا الإطار يندرج معيار التزييف
falsification عند كارل بوبر K. Poper. إن هذا الفيلسوف يؤكد أن تمثله لهذا المعيار يتأسس على الاختلاف الذي يوجد بين معياره ومعيار التحقق لتجريبي. فمعيار التزييف (أو التكذيب) لا يلغي التماسك المنطقي، وإنما هو معيار للمقارنة بين الأنساق العلمية المختلفة. فهذا المعيار يبين أن نظرية علمية ما، غير قابلة لكي تكون كذلك إلا إذا كانت قابلة للتكذيب. إن التكذيب وحده يستطيع أن يبين حدودها العلمية. علما بأن قابلية التزييف لا تعني أن النظرية فارغة من كل معنى، لأن التزييف يحدد فقط المجال الذي تصدق فيه النظرية العلمية، فالمقارنة بين نظريتي نيوتن وإنشتاين تبين أن كلا منهما تكذب الأخرى، دون أن يعني ذلك الشك في صدق أو علمية أي منهما. إن كارل بوبر يعتقد أن التكذيب/الترييف من شأنه أن يدفع بالأنساق العلمية إلى أن تخوض صراعا مريرا من أجل البقاء.
كتخريج عام، يمكن التأكيد أن النقاش الدائر بين النظريات العلمية يجد نفسه في الاختلاف النظري بين العقلانية الكلاسيكية والعقلانية المعاصرة، حيث كان العقلانية الكلاسيكية تتصور تاريخ العلم كأنه تطور خطي تصاعدي تكمل فيه النظريات بعضها البعض، ومن ثمة تبدو كأنها تشكل نسقا واحدا في النهاية. لكن مع ظهور النظريات المعاصرة، تبين أن العلم – كما قال باشلار- يتطور على شكل قطائع
ruptures
إبيستيمولوجية. فكان من شأن ذلك مراجعة في النظرة التقليدية إلى العلم.