الخاطرة الرابعة : الصوم الصحيح
كثير
من عامة الناس يحافظون على العبادات في أيام رمضان، و كأنهم يستنكرون أن
يتركوا العبادتين: الصوم و الصلاة، أو يفعلوا عبادة دون عبادة.
فتراهم يستنكرون أن يتركوا الصوم و الصلاة، و يستنكرون أن يؤدوا الصوم دون الصلاة، أو يفعلوا شيئاً من المحرمات.
تجدهم في رمضان يتوبون و لكن توبة مؤقتة، فهم في أنفسهم عازمون على العودة
إلى المعاصي. ففي رمضان يحافظون على الصلاة، و يتوبون عن الخمر أو عن
الدخان مثلاً، أو عن الاستماع إلى الأغاني و الملهيات و نحو ذلك، أو عن
بعض الشعارات الباطلة أو عن الصور الخليعة، أو ما أشبه ذلك، و لكن يحدثون
أنفسهم أنهم بعد شهر رمضان سيعودون إلى ما كانوا عليه و لهذا يتمنون
انقضاء هذه الأيام و إذا أقبل رمضان حثوا أنفسهم، و تناولوا ما قدروا عليه
من الخمر و من غيرها حتى قال بعضهم:
دعاني شهر الصوم لا كان من شهر و لا صمت شهراً بعده آخر الدهر
و العياذ بالله… فهؤلاء ربما يفرقون بين رمضان و ما بعد رمضان؛ فيستكثرون
من تناول الحرام و فعله قبل أن يأتي شهر رمضان؛ لأنهم سيتركونه مدة هذا
الشهر فقط، ثم يعودون إليه، حتى قال بعضهم:
إذا العشرون من شعبان ولّت فبادر بالشراب إلى النـــهارِ
و لا تشرب بأقداحٍ صغـارٍ فإن الوقتَ ضاق على الصغارِ
فمثل هؤلاء لم يتأثروا بصومهم، فالإنسان يستعيذ بالله أن يكون من هؤلاء
الذين ما نفعهم صومهم و لا زجرهم عن المحرمات، و إذا فعلوا شيئاً من
العبادات فعلوها بنية الترك و إذا تركوا شيئاً من المعاصي تركوها بنية
الفعل بعد أن ينفصل الشهر، كما قال شاعرهم و أميرهم:
رمضان ولّى هاتها يا ساقي مشتاقة تسعى إلى مشتاقِ
فهو ينادي ساقي الخمر بأن يأتي إليه بالشراب مسرعاً؛ لأن رمضان قد انقضى و ولَّى و كأن الخمر حرام في رمضان حلال في غيره.
فالصوم الصحيح هو الذي يحفظ فيه الصائم صيامه؛ فيحفظ البطن و ما حوى، و
الرأس و ما وعى، و يذكر الموت و البلى، و يستعد للآخرة بترك زينة الحياة
الدنيا، و يترك الشهوات التي أساسها شهوة البطن و الفرج، و يذكر بعد ذلك
ما نهاه الله عنه من الشهوات المحرمة في كل وقت. و يذكر أيضاً أن الصوم هو
في ترك هذه الشهوات، فما شرع الله الصوم إلا لتقويم النفوس و تأديبها. الخاطرة الخامسة: من فوائد الصيام
ذكر
الأطباء و العلماء قديماً و حديثاً أن الصوم يهذب النفوس، و أنه يزكيها و
يقويها و أنه يكسب الأجسام ملاحة و صحة و قوة، حتى قال بعضهم: (سافروا
تغنموا، و صوموا تصحوا)("صوموا تصحوا". يروى هذا اللفظ ضمن حديث رواه ابن
عدي في الكامل: 7/2521 من طريق نهشل بن سعد عن الضحاك عن ابن عباس. و نهشل
متروك كان يكذب، و الضحاك لم يسمع من ابن عباس).
فمعنى ذلك أن الصوم حماية للنفس، من الأخلاق المؤذية الضارة التي قد تفسد النفس و توقعها فيما يضرها.
كما أن فيه أيضاً تمرين النفس على الصبر و التحمل و المجاهدة، و أنت تحس بذلك إذا ما فاجأك أمر يحتاج منك إلى شيء من ذلك.
*
فالإنسان الذي تعوَّد على الجوع، و صبر عليه مدة طويلة و صبر على الظمأ،
إذا جاءه أمر مفاجئ، بأن وقع مثلاً في جوع شديد أو إذا ظمئ و لا يوجد ماء
و هو في سفر، أو انقطع عنه الشراب كما يكون في الأسفار أحياناً، فإذا كان
قد مرّن نفسه على هذا العمل، لم يحس بذلك و لم يتأثر به، بخلاف من عوّد
نفسه على تناول الشهوات في كل الأوقات، فإنه إذا افتقدها في وقت من
الأوقات حصل عليه تأثر كبير، و أصيب بالأمراض و ربما أتى إليه الهلاك
بسرعة؛ و ذلك لأنه لم يتعود هذا الأمر و لم يمرن نفسه عليه.
*
كما أن للصيام أيضاً فائدة أخرى و هي: أن الصائم إذا أحس بالجوع تذكر أهل
الجوع الدائم؛ تذكر الفقراء، و المساكين، و المستضعفين، الذين يمسهم الجوع
في أغلب الأوقات في أكثر البلاد الإسلامية تذكر أن له إخوة يجمعهم و إياه
دين واحد، دين الإسلام، يدينون بما يدين به و يعتقدون ما يعتقده، و أنهم
في جهد و في جوع، و في ضنك من المعيشة، فيحملك هذا الذي أحسست به من هذا
النوع على أن ترحمهم و تعطف عليهم و تواسيهم و تعطيهم مما آتاك الله، و
تمدهم بما يخفف عنهم آلامهم التي يقاسونها. فإذا قاسيت هذه الآلام في وقت
من الأوقات تذكرت من يقاسيها في جميع الأوقات.
فهذه من الحكم العظيمة في الصيام أن يتذكر الغني الفقراء، و أن يرحمهم و يعطف عليهم بما أعطاه الله تعالى. الخاطرة السادسة: القرآن في رمضان
معلوم
أن رمضان شهر له خصوصية بالقرآن. قال الله تعالى: ((شهر رمضان الذي أنزل
فيه القرآن هدى للناس و بينات من الهدى و الفرقان))(البقرة:185).
فقد أنزل الله القرآن في هذا الشهر، و في ليلة منه هي ليلة القدر، لذا كان لهذا الشهر مزية بهذا القرآن.
و كان النبي صلى الله عليه و سلم يعرض القرآن في رمضان على جبريل عليه السلام، فكان يدارسه القرآن.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه و سلم
أجود الناس و كان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه
القرآن"(سبق تخريجه).
فكونه يخص ليالي رمضان بمدارسته، دليل على أهمية قراءة القرآن في رمضان.
و معلوم أن الكثير من الناس يغفلون عن قراءة القرآن في غير رمضان، فنجدهم
طوال السنة لا يكاد أحدهم يختم القرآن إلا ختمة واحدة، أو ختمتين، أو ربما
نصف ختمة في أحد عشر شهراً. فإذا جاء رمضان أقبل عليه و أتم تلاوته.
و نحن نقول: إنه على أجر، و له خير كبير، و لكن ينبغي ألا يهجر القرآن
طوال وقته؛ لأن الله تعالى ذمّ الذين يهجرونه، قال تعالى: ((و قال الرسول
يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً))(الفرقان).
* و من هجران القرآن ألا يكون الإنسان مهتماً به طوال العام إلا قليلاً.
* و من هجرانه كذلك أنه إذا قرأه لم يتدبره، و لم يتعقله.
* و من هجرانه أن القارئ يقرأه لكنه لا يطبقه، و لا يعمل بتعاليمه.
و أما الذين يقرؤون القرآن طوال عامهم، فهم أهل القرآن، الذين هم أهل الله و خاصته.
و يجب على المسلم أن يكون مهتماً بالقرآن، و يكون من الذين يتلونه حق
تلاوته، و من الذين يحللون حلاله و يحرمون حرامه، و يعملون بمحكمه، و
يؤمنون بمتشابهه و يقفون عند عجائبه، و يعتبرون بأمثاله، و يعتبرون بقصصه
و ما فيه، و يطبقون تعاليمه؛ لأن القرآن أنزل لأجل أن يعمل به و يطبق، و
إن كانت تلاوته تعتبر عملاً و فيها أجر.
و فضائل التلاوة كثيرة و مشهورة، و لو لم يكن منها إلا قول النبي صلى الله
عليه و سلم: "من قرأ حرفاً من القرآن فله حسنة، و الحسنة بعشر أمثالها، لا
أقول آلم حرف، و لكن ألف حرف، و لام حرف، و ميم حرف"(أخرجه الترمذي برقم
2910من حديث عبدالله بن مسعود مرفوعاً). فجعل في قراءة آلم ثلاثين حسنة.
و فضائل التلاوة كثيرة لا تخفى على مسلم، و في ليالي رمضان و أيامه تشتد
الهمة له. كان بعض القراء الذين أدركناهم يقرؤون في كل ليلة ثلاثة أجزاء
من القرآن على وجه الاجتماع؛ يجتمعون في بيت، أو مسجد، أو أي مكان،
فيقرؤون في كل عشرة أيام مرة. و بعضهم يقرأ القرآن و يختمه وحده.
و قد أدركت من يختم القرآن كل يوم مرة أو يختم كل يومين مرة فقد يسره الله
و سهله عليهم، و أشربت به قلوبهم، و صدق الله القائل: ((و لقد يسَّرنا
القرآن للذكر فهل من مُدَّكر))(سورة القمر:17). و قال: ((فإنما يسَّرناه
بلسانك لعلهم يتذكرون))(الدخان:58).
فمن أحب أن يكون من أهل الذكر فعليه أن يكون من الذين يتلون كتاب الله حق
تلاوته، و يقرأه في المسجد، و يقرأه في بيته، و يقرأه في مقر عمله، لا
يغفل عن القرآن، و لا يخص شهر رمضان بذلك فقط.
فإذا قرأت القرآن فاجتهد فيه؛ كأن تختمه مثلاً كل خمسة أيام، أو في كل
ثلاثة أيام، و الأفضل للإنسان أن يجعل له حزباً يومياً يقرأه بعد العشاء
أو بعد الفجر أو بعد العصر، و هكذا. لابد أن تبقى معك آثار هذا القرآن
بقية السنة و يحبب إليك كلام الله، فتجد له لذة، و حلاوة، و طلاوة، و هنا
لن تمل من استماعه، كما لن تمل من تلاوته.
هذه سمات و صفات المؤمن الذي يجب أن يكون من أهل القرآن الذين هم أهل الله تعالى و خاصته.
أما قراءة القرآن في الصلاة، فقد ذكرنا أن السلف كانوا يقرؤون في الليل
فرادى و مجتمعين قراءة كثيرة. فقد ذكروا أن الإمام الشافعي -رحمه الله-
كان يختم في الليل ختمة، و في النهار ختمة، في غير الصلاة؛ لأنه يقرأ في
الصلاة زيادة على ذلك.
و قد يستكثر بعض الناس ذلك و يستبعدونه، و أقول: إن هذا ليس ببعيد، فقد
أدركت أناساً يقرؤون من أول النهار إلى أذان صلاة الجمعة أربعين جزءاً في
مجلس واحد. يقرأ، ثم يعود فيقرأ، يختم القرآن ثم يعود فيختم ثلث القرآن،
فليس من المستبعد أن يختم الشافعي في النهار ختمة، و في الليل ختمة.
و لا يستغرب ذلك أيضاً على الذين سهل القرآن في قلوبهم، و على ألسنتهم،
فلا يستبعده إلا من لم يعرف قدر القرآن، أو لم يذق حلاوته في قلبه.
و على الإنسان إذا قرأ القرآن أن يتدبَّره، و الكفار كذلك مأمورون بذلك
حتى يعترفوا أنه من عند الله، و أنه لو كان من عند غير الله لاختلفت
أحكامه، و لاضطربت أوامره و نواهيه، فلما كان محكماً متقناً، لم يقع فيه
أي مخالفة، و لا أي اضطرابات كان ذلك آية عظيمة، و معجزة باهرة.
فهذا هو القصد من هذه الآية، و لكن لا ينافي ذلك بأننا مأمورون أن نتدبر كل ما قرأنا كما أمرنا.